مدى حضور المذهبية في شرح الإمام ابن سودة التاودي لأحاديث البخاري في كتابه "حاشية التاودي على صحيح البخاري"

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

مدى حضور المذهبية في شرح الإمام ابن سودة التاودي لأحاديث البخاري
في كتابه "حاشية التاودي على صحيح البخاري"

 

    تقديـــــــــــــــــــــــــــــــم:   

    الحمد لله رب العالمين، خالق الكون المنزه عن المخلوقين، والصلاة والسلام على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الكرام الطيبين، وبعد:

    لقد عرفت مدرسة الحديث بالغرب الإسلامي في أواخر القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر الهجري حركة وازدهارا، وذلك على يد أعلام عُرفوا بالعلم والزهد والورع، ويعتبر الشيخ العلامة ابن سودة التاودي (ت:1209ه) من أبرز هؤلاء الأعلام، حيث ساهم رحمه الله بشكل كبير في دعم المدرسة الحديثية بالمغرب الأقصى وتطويرها، وذلك بما ألّفه في الفقه وما شرحه من الحديث وغير ذلك.

    وتعدّ حاشية الإمام ابن سودة على صحيح البخاري والتي جعلها صاحبها تحت عنوان: "زاد المجد الساري لمطالع صحيح البخاري"، من بين أفضل الشروح والتعليقات على كتاب البخاري، فقد جاءت زاخرة بالفوائد والفرائد والحكم والأحكام، كما يحظى هذا السفر بقيمة علمية كبيرة داخل المكتبة المالكية المغاربية. 

    والكتاب تضمن تعليقا وتفسيرا لما جاء في صحيح البخاري من أحاديث نبوية، وذلك بهدف التقرب والتعلق بالجانب النبوي والتخلق بخلق المحدثين، كما صرح بذلك في مقدمته[1].

    وقد جاءت هذه الحاشية نتيجة لما يفوق أربعين ختمة بالدرس والإقراء لصحيح البخاري، يقول عبد الحي الكتاني رحمه الله: "لخصت من (الروضة المقصودة) لأبي ربيع الحوات في ترجمته: ومن دؤوبه أنه ثابر على إقراء صحيح البخاري حتى جاوزت ختماته حد الأربعين، فلم يكن يدعه لاسيما في شهر الصيام من البدء إلى التمام، يفتتحه أول يوم منه ويختمه آخره، وكان يأتي في هذا الزمان القليل بتحقيقات، وله عليه (زاد المجد الساري) في نحو أربع مجلدات، وحاشيته هذه طبعت بفاس"[2].

    وبالاطلاع على سيرة العلامة أبو عبد الله ابن سودة التاودي، تجده نشأ بالمغرب الأقصى وبالضبط بمدينة فاس عاصمة العلم والعلماء، وعاش زمن السلطان محمد بن عبد الله الذي ازدهرت الحركة العلمية في فترة حكمه؛ حيث دعا إلى التشبث بالكتاب والسنة، وأمر العلماء بتدريس كتب الحديث، وحثهم على العناية بمصادر الفقه المالكي.

    من هنا يتضح أنّ الإمام التاودي كان من الأعلام الذين نهضوا بالفقه المالكي أصولا وفروعا، وبالعقيدة الأشعرية التي سادت المغرب في انسجام تام مع المذهب المالكي، وذلك بيّن من خلال شرحه لأحاديث البخاري، حيث يُلاحظ من كتابه أنه مالكي فقها، أشعري عقيدة، سالكا طريقة الجنيد في التصوف.

    مدى حضور أو غياب المذهبية أثناء شرحه للحديث:

    عند مطالعة كتاب "التوحيد" من حاشية الإمام التاودي على صحيح البخاري، يتضح جليا أشعرية الشيخ من خلال شرحه للحديث، فمذهبيته العقدية حاضرة بقوة في كتابته.

    فنجده رحمه الله يأتي بأحاديث البخاري أولا ثم يعقد بابا بنفس ترجمة الأحاديث، ثم يشرع بالتفسير والتعليق عليها، فيأتي غالبا بأقوال الأشاعرة في الباب ويسردها واحدا تلو الآخر، وكثيرا ما يستدل بأقوال ابن بطال القرطبي المالكي الأشعري، وأحيانا يدلي برأيه آخر الشرح، وأحيانا يفتتح به الشرح ثم يتبعه بأقوال العلماء.

    كما أنه على منهج الأشاعرة في اعتبار الوحيين الكتاب والسنة المصدر الرئيسي للعقيدة، وحمل النصوص على ظاهرها مع عدم اللجوء إلى التأويل إلا إذا أوجبته ضرورة تنزيه الخالق عما لا يليق به من الصفات، وإعطاء الأولوية للنقل في الاستدلال، إذ النظر العقلي مشروع عند الأشاعرة في أمور العقائد إلا أن العقل تابع للنقل، وهذا ما يدل على أشعريته رحمه الله، وهذه بعض الأمثلة التي توضح ذلك:

·       تأويل الصفات الخبرية الموهمة لتشبيه الله بخلقه وتجسيمه، كالاستواء على العرش، وإثبات اليد والعين، فتؤوّل بما تدل عليه من القدرة والسيطرة والرعاية، وهذا ما جاء في شرحه لباب قول الله عز وجل {ولتصنع على عيني}، يقول: "أي تربّى على رعايتي وحفظي لك. قال ابن المنير: لأهل الكلام في هذه الصفات كالعين والوجه واليد ثلاثة أقوال: أحدها أنها صفات ذات أثبتها السمع ولا يهتدي إليها العقل، والثاني أن العين كناية عن صفة البصر واليد كناية عن صفة القدرة والوجه كناية عن صفة الوجود، والثالث إقرارها على ما جاءت به مفوّضا أمرها إلى الله تعالى كما في النفس والنزول والاستواء. وقال السهروردي: أخبر الله تعالى في كتابه وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم الاستواء والنزول واليد والعين فلا يتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل إذ لولا إخبار الله تعالى ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى. قال الطيبي: وهذا هو المذهب المعتمد وبه يقول السلف الصالح. اهـ. والحاصل أنهم اتفقوا على أنه يجب الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله منها وأنه يجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: الآية11]"[3].

·       القرآن كلام الله قديم باعتباره كلاما نفسيا قائما بذاته تعالى، وهو صفة من صفات الله، أما الأصوات والحروف فهي حادثة. يفسر رحمه الله ذلك في باب قول الله تعالى {ولا تنفع الشفاعة عنده} بقوله: "هذا أول باب تكلم فيه البخاري على مسألة الكلام وهي مسألة طويلة الذيل وقد تواتر القول بأنّ الله تعالى متكلم عن الأنبياء ولم يختلف في ذلك أحد من أرباب الملل والمذاهب، وإنما الخلاف في معنى كلامه وقدمه وحدوثه. فعند أهل الحق أنّ كلامه تعالى ليس من جنس الأصوات والحروف بل صفة أزلية قائمة بذاته منافية للسكوت الذي هو ترك الكلام والآفة..."[4].

·       رؤية الله تعالى بالأبصار ثابتة في الآخرة؛ استدل العلامة التاودي على هذه المسألة بما ورد في السنة من أحاديث وما جاء به المفسرون كالإمام الطبري، يقول: "قال الطبري: والصواب الأول وهو ثبوت الرؤية للأحاديث الصحيحة"[5]، وله تفصيل مطوّل في هذه المسألة حيث يورد الأحاديث بتعدد رواياتها، ويسرد الأقوال على اختلافها.

 

والحمد لله رب العالمين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] حاشية التاودي ابن سودة على صحيح البخاري، أبو عبد الله التاودي، ضبطه وصححه وخرّج آياته عمر أحمد الراوي، دار الكتب العلمية بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 2007م، 1/5.

[2] فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والشيخات والمسلسلات، عبد الحي الكتاني، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية 1402ه/1982م، 1/257.

[3] حاشية التاودي ابن سودة على صحيح البخاري، 6/518.

[4] المصدر نفسه، 6/551.

[5] المصدر نفسه، 6/536.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -