بسم الله
الرحمن الرحيم
منهج الإمام الشعراوي في استنباط السنن الإلهية
مقدمــــــــــــــــــــة:
إن السنن الإلهية هي حقائق ثابتة تقدم تفسيرا
صحيحا عن الكون والإنسان وحركته في المجتمع والتاريخ[1]، وعند الرجوع للقرآن الكريم نجد المادة السننية بارزة
بقوة، من خلال التصريح بلفظ السنة أو ما يقاربه من مصطلحات ومفاهيم دالة على
السنن، مع رصيد هام من القصص والأمثال والأحكام المطعمة والمذيلة بحقائق سننية
تصريحا أو تلميحا[2].
وقد تصدى مفسرو العصر الحديث لبيان هذه السنن
وإبرازها كقوانين إصلاحية ثابتة، ومن هؤلاء المفسرين الإمام محمد متولي الشعراوي
في تفسيره "خواطر إيمانية حول القرآن الكريم".
أولا: منهج الإمام الشعراوي في استنباط السنن الإلهية
1.
المنهج العام للإمام الشعراوي في تفسيره
اتخذ الإمام الشعراوي في تفسيره المشهور بـ
"الخواطر الإيمانية حول القرآن الكريم" والذي فسر فيه السور القرآنية من
أول سورة الفاتحة إلى نهاية الآية 47 من سورة الحجر، منهجا خاصا به، اتسم في مجمله
بالأسلوب المتميز ولغة خطاب واضحة سهلة تستهدف العالِم والعامي، أما منهجه العام
في تفسيره للآيات القرآنية فيمكن توضيحة في التقسيم الآتي:
·
منهجه في التفسير بالمأثور: منهج الإمام الشعراوي في
التفسير بالمأثور يتكون من تفسير القرآن بما فيه من القرآن نفسه، وبأقوال النبي
صلى الله عليه وسلم، وبما ورد عن الصحابة والتابعين في ذلك، وقد كان استناده رحمه
الله في هذا المنهج على أصول التفسير بالمأثور من كيفية إنزال القرآن وأسباب
النزول، والقراءات القرآنية، وترتيب القرآن وتحزيبه، والنسخ وموقفه منه، والمكي
والمدني، والمحكم والمتشابه، وقد كان عرضه للإسرائيليات قليل جدا، وهذا المنهج
–التفسير بالمأثور- عنده قليل.
·
منهجه في التفسير بالرأي: اعتمد الإمام الشعراوي في
التفسير بالرأي على أصول كالمناسبات والمشكل وفواتح السور وخواتمها، والإعجاز
البياني في القرآن، وعرض لقضايا اللغة كالمعاني والاشتقاقات اللغوية والنحو
والإعراب والشعر، واختار اللغة السهلة التي كان يستعملها لإيصال المعنى إلى القلب
مستخدما التمثيل وطرح تساؤلات وإيراد القصص والحكايات والأمثال الشعبية وغيرها.
·
منهجه في التفسير العلمي: يذكر القضايا العلمية التي
تشير إليها الآيات، ويبين إعجاز القرآن الكريم فيها، وهي عطاء من عطاءات القرآن
الكريم المتجددة التي تعطي أهل كل زمان ما يتناسب مع عقولهم، وتدركه أفهامهم، كما
عرض العلوم الطبيعية كعلم الفلك وما يهتم به هذا العلم من دراسة الظواهر الفلكية
وتفسيرها، وكذلك علم الأحياء، وما يختص به هذا العلم من دراسة الكائنات الحية
وبيئتها، وعلاقتها مع الإنسان، وعلم الجغرافيا والبحار والفيزياء وكذا العلوم
التجريبية كعلم الطب والكيمياء، وعلم النفس.
·
منهجه في الجانب الفقهي: عرض الشعراوي للجانب الفقهي من
خلال بيانه للأحكام الفقهية من عبادات ومعاملات وأحوال شخصية وحدود، وكذلك بيانه
للإعجاز التشريعي في علاج مشكلات المجتمع، وبيانه لعلة التشريع والحكمة منه، مع
عدم توسعه في الخلافات الفقهية بين العلماء، ثم قارن بين التشريع السماوي والتشريع
الوضعي البشري، مع ربطه بين الفقه والواقع الاجتماعي.
·
منهجه في الجانب الاجتماعي: أما منهجه في الجانب
الاجتماعي فقد كان له موقف من الأنظمة الحديثة والمستشرقين والمشككين والحاقدين
على الدعوة، فبين زيفهم من خلال تفسيره للآيات وربطها بواقعه، ثم موقفه من الحكم،
ومن اليهود وإفسادهم للمجتمعات، ثم نقد العادات والبدع السيئة في المجتمع[3].
وفي كل هذه المجالات التي تطرق إليها الإمام
الشعراوي بالبيان والشرح وربط بالواقع، قد استعمل في تفسير آياتها القرآنية المنهج
الإجمالي كمنهج عام للتفسير، وهذا المنهج "يبين فيه المفسر خلاصة الآية أو
الآيات التي يفسر، ويبرز مقاصدها ويشرح الدقيق من ألفاظها، وسبب نزولها حتى يستقر
المعنى العام بلا دخول في تفاصيل كثيرة"[4]، إضافة إلى المنهج التحليلي؛ حيث يقوم بتفكيك ألفاظ
الآيات وشرحها، مع ربطها بالواقع.
ثم
نلمس في تفسيره إبراز الاتجاه السنني واستنباط القوانين الإلهية، وهنا نطرح إشكالا
وهو هل اعتمد الشعراوي على نفس منهجه العام في استنباط السنن الإلهية أم له منهج
خاص في ذلك؟ وكيف تعامل الإمام الشعراوي مع الآيات الدالة على السنن الإلهية؟
2.
المنهج الخاص في استنباط السنن الإلهية عند الشعراوي:
كما هو معلوم أن تفسير القرآن الكريم أو علم
التفسير عرف نوعا من التجديد في العصر الحديث؛ تجديدا في العرض، أي في طريقة تقديم
التفسير وتقريبه لأفهام الناس وتمكين معاني القرآن من قلوبهم، وكذا تجديد في
اتجاهاته ومجالاته، حيث عرف التفسير اتجاهات جديدة كالاتجاه العلمي، والاتجاه
البياني، والاتجاه الهدائي، والاتجاه الإصلاحي، والاتجاه السنني، ويعد هذا الأخير
–التفسير السنني- "منهجا واتجاها تفسيريا يفتح مغاليق التفسير التقليدي،
ويسهم في تجديد التفسير وتغيير واقع العقل المسلم والأمة المسلمة بالتبع".[5]
وقد أبرز مفسرو العصر الحديث السنن الإلهية
في تفاسيرهم، واستخلصوا مقاصدها وقوانينها وتجلياتها، ومن هؤلاء المفسرين الإمام
الشعراوي في تفسيره، حيث نجده رحمه الله جعل السنن الإلهية كأداة للإصلاح القرآني
لما كان سائدا في عصره، وهذا لأن تفسيره يعد تفسيرا إصلاحيا في مجمله.
ويمكن إبراز منهج الإمام الشعراوي رحمه الله
في توظيف الاتجاه السنني في تفسيره من ناحيتين: إحداهما: من حيث استنباط هذه
السنن، والثانية: من حيث عرضه لهذه السنن.
أولا: منهجه في استنباط السنن الإلهية
بعد التتبع للسنن الإلهية في الآية القرآنية التي
جاءت في الجزء الأول من تفسير الشعراوي يتبين لنا أنه رحمه الله يعتمد في استنباط
السنن على المنهج التحليلي، بحيث يشرع في الآية التي تتضمن سنة إلهية بتحليل
مقتضاها وتفكيك ألفاظها وعباراتها، وتوضيح المراد والمقصود منها مع ربطها بالواقع
واستنباط الحلول منها.
وقد استعان في طريقة استنباطه هذه بالألفاظ
الكونية الواردة في الآيات والدالة على السنة الكونية مثل لفظ "جعل" في
قوله تعالى: {الذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ
مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا
لله أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة:22، وكذلك بتتبعه لآيات الأمثال
واستخلاص السنن الإلهية منها قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ
نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} البقرة:17، وكذلك استقراءه للقصص القرآني واستخراج
العبر منها، وإبراز تلك العبر كقوانين ثابتة صالحة لكل أمة في أي زمان ومكان، كما
أنه رحمه الله يستقرأ الآيات المتضمنة للسنن الإلهية ويجعلها معضدة للآية التي هو
بصدد تفسيرها، من هنا يمكن أن نقول أن الإمام الشعراوي يعتمد على المنهج التحليلي
والاستقرائي في استنباط السنن الإلهية وهو في هذا لا يخرج عن منهجه العام في
التفسير.
ومما يجب أن ننبه عليه هو أنه رحمه الله
يستحضر السياق في كل آية يشرع في تفسيرها وحتى الآيات السننية، إذ يربط الآية بما
جاء قبلها من معنى ليختمها بنتيجة ثابتة، تسمى ناموس أو قانون إلهي.
ثانيا: منهجه في عرض السنن الإلهية
أما منهج الإمام في عرضه لهذه السنن فإنا نجده رحمه الله
تارة يكشف عن هذه السنن بذكر أسبابها ونتائجها، وتارة يعرضها بالتفصيل والشرح وهذا
هو الغالب، إذ معظم الآيات السننية لا يصرح بكونها سنة، ولا يستعمل صيغة صريحة تدل
عليها، وإنما يشرحها ويفصل فيها دون التصريح بها.
كما نجده رحمه الله يعرض السنن كقوانين
مطابقة للواقع الذي يعيشه، وبالتالي فهي علاج للداء الذي أصاب المجتمعات، وحل
لمشكلاته، وهذا نلمسه خاصة في تفسيره للقصص القرآني واستنباط سننه، بحيث يبرز لنا
أن شخصيات القصة جاءت مبهمة مجهولة لكي تبقى عبرتها خالدة على مر الأزمان،
وبالتالي هي قانون إلهي يجري على كل أمة لا على شخص بعينه.
ثانيا: نماذج تطبيقية للسنن الإلهية في تفسير الإمام الشعراوي
1.
نماذج للسنن الكونية في تفسير الشعراوي
من أقسام السنن الإلهية باعتبار مجال
تطبيقاتها وسريانها السنن الكونية، ومعناها القوانين الحاكمة في الطبيعة وفي
العالم المادي وفي نظام الكون وتركيبه، وتسمى الآيات الكونية، وآيات الآفاق،
والسنن الطبيعية، وتسمى بلسان العصر علوم الفضاء والأرض والبحار والأحياء.[6]
وقد عرض الإمام الشعراوي في تفسيره هذه
السنن، نبينها في النماذج التالية:
·
قال تعالى: {الذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ
بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً
لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لله أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة:22.
فهذه الآية تشتمل على سنة كونية وقانون ثابت مسخر للإنسان، وقد بين الإمام
هذه السنة من خلال شرحه وتفصيله لها، يقول رحمه الله: "إذن من آيات الحق
سبحانه وتعالى في الأرض أنه جعلها فراشا أي ممهدة ومريحة لحياة الإنسان، وحفظ
السماء بقدرته جل جلاله، فهي ثابتة في مكانها، لا تهدد سكان الأرض وتفزعهم، بأنها
قد تسقط عليهم...وضع في الأرض وسائل استبقاء الحياة، فلم يترك الإنسان على الأرض
دون أن يوفر له وسائل استمرار حياته"[7]، ثم بين رحمه الله الغاية من هذه السنة الكونية فقال:
"فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا بهذه الآية الكريمة إلى أن نفكر قليلا،
فيمن خلق هذا الكون، لنعرف أنه قبل أن يخلق الإنسان خلق له عناصر بقائه".[8]
·
قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمُ أَمْوَاتاً
فَأَحْيَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
البقرة: 28.
هذه الآية تقرر سنة كونية وهي خلق الإنسان وإماتته وإحياءه بعد الموت، وقد
بينها الإمام الشعراوي من خلال تحليله واستقرائه للآيات التي تصب في نفس المعنى.
يقول رحمه الله: "لكن قضية الحياة والموت لا يمكن لأحد أن يجادل فيها،
فالله سبحانه وتعالى خلقنا من عدم، ولم يدع أحد قط أنه خلق الناس أو خلق
نفسه...وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للناس إن الذي خلقكم هو الله
لم يستطع أحد أن يكذبه ولن يستطيع، ذلك أننا كنا فعلا غير موجودين في الدنيا،
والله سبحانه وتعالى أوجدنا وأعطانا الحياة، وقوله تعالى "ثم يميتكم"
فإن أحدا لا يشك في أنه سيموت، الموت مقدر على الناس جميعا، ولابد أن نلتفت إلى أن
الله تبارك وتعالى أخفى عنا الموت زمانا ومكانا وسببا وعمرا، لم يخفه ليحجبه،
وإنما أخفاه حتى نتوقعه في كل لحظة وهذا إعلام واسع بالموت حتى يسرع الناس إلى
العمل الصالح وإلى المثوبة".[9]
فهذه سنة الله في خلقه حيث أوجدهم من عدم ثم يميتهم ثم يحييهم مرة أخرى،
وفي هذا تقرير لوحدانية الله تعالى. وقد أبرز الشعراوي هذه السنة الكونية من خلال
تحليله للآية وبيان المنهج الرباني في إحياء الخلق وإماتته.
·
قال تعالى: {هُوَ الذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ} البقرة: 29.
يقول الإمام الشعراوي في بيان هذه الآية الدالة على سنة كونية:
"يذكرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه هو الذي خلق ما في الأرض جميعا،
وقد جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى {فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ليلفتنا إلى أن ما في الأرض كله ملك لله جل جلاله، وأننا
لا نملك شيئا إلا ملكية مؤقتة، وأن ما لنا في الدنيا سيصير لغيرنا وهكذا،...وكذلك
نعيش على الأرض ونستفيد بكل ظواهرها وكل ما سخره الله لنا، وعدم علمنا بسر الخلق
والإيجاد لا يحرمنا هذه الفائدة، فهو علم لا ينفع ولا يضر، والكون مسخر لخدمة
الإنسان".[10]
فالإمام هنا عرض لسنة الله في الكون وهي خلق ما في الأرض والسماوات خدمة
وتسخيرا للإنسان، عن طريق الشرح والتحليل مستعينا بصيغة القرآن في عرضها وهي لفظ
"خلق".
·
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةٌ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لَا تَعْلَمُونَ} البقرة: 30.
هذه الآية الكريمة تقرر سنة كونية وهي تحقيق
الخلافة في الأرض، وهي "تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها،
وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه"[11]، وقد فصل الإمام الشعراوي هذه السنة الكونية مع اعتماده
على السياق بقوله: "بعد أن أخبرنا الحق سبحانه وتعالى أنه خلق جميع ما في
الكون، أراد أن يخبرنا عمن خلقه لعمارة هذا الكون"[12]، كما استقرأ الآيات التي اشتملت على القصص القرآني
واستنبط منها سنة التأييد وعضد بها السنة المضمنة في هذه الآية، يقول: "فكل
قصة تثبت فؤاد الرسول والمؤمنين في المواقف التي تزلزلهم فيها الأحداث، وقصص
القرآن ليست لقتل الوقت، ولكن الهدف الأسمى للقصة هو تثبيت ونفع حركة الحياة
الإيمانية، والعبرة في قصص القرآن الكريم أنها تنقل لنا أحداثا في التاريخ، تتكرر
على مر الزمن، ففرعون مثلا هو كل حاكم يريد أن يعبد في الأرض، وأهل الكهف مثلا هي
قصة كل فئة مؤمنة هربت من طغيان الكفر وانعزلت لتعبد الله"[13]. هكذا ربط الإمام هذه السنن بواقعه.
·
قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى
أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونْ} البقرة:117.
يقول الإمام الشعراوي في بيان هذه السنة الكونية: "أي خلق السماوات
والأرض وكل ما فيها من خلق على غير مثال سابق،...ومعنى قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْراً}
أي إذا حكم بحكم فإنه يكون، على أننا يجب أن نلاحظ قول الحق: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} معنى يقول له أن الأمر موجود عنده، وجود في علمه،
ولكنه لم يصل إلى علمنا، أي أنه ليس أمرا جديدا، لأنه ما دام الله سبحانه وتعالى
قال: {يَقُولُ لَهُ} كأنه جل جلاله يخاطب موجودا، ولكن هذا الموجود ليس في علمنا
ولا نعلم عنه شيئا، وإنما هو موجود في علم الله سبحانه وتعالى، ولذلك قيل أن لله
أمورا يبديها ولا يبديها، إنها موجودة عنده، لأن الأقلام رفعت والصحف جفت، ولكنه
يبديها لنا نحن الذين لا نعلمها فنعلمها".[14]
فهذه سنة الله في خلقه إذا أراد الله لهم شيئا حققه بلفظ "كن"،
وكل ما هو كائن في هذا الكون قد سبق في علمه تعالى قبل أن يعلمه الخلق، وهذا نظام
ثابت وسنة كونية مطردة تقرر قدرة الله تعالى المطلقة.
2.
نماذج للسنن الشرعية في تفسير الشعراوي
· قال تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}
البقرة: 36.
أشار الإمام الشعراوي أثناء تفسيره لهذه الآية إلى سنة اجتماعية ونظام إلهي
يخص الحياة الأسرية، قال رحمه الله: "وهنا لابد أن نتساءل لماذا لم يقل
فتشقيا؟ إن هذه لفتة من الحق سبحانه وتعالى إلى مهمة المرأة ومهمة الرجل في
الحياة، فمهمة المرأة أن تكون سكنا لزوجها عندما يعود إلى بيته، تذهب تعبه وشقاءه،
أما مهمة الرجل فهي العمل حتى يوفر الطعام والمسكن لزوجته وأولاده. والعمل تعب
وحركة، وهكذا لفتنا الحق تبارك وتعالى إلى أن مهمة الرجل أن يكدح ويشقى، ثم يأتي
إلى أهله فتكون السكينة والراحة والاطمئنان.
إذا كانت هذه هي الحقيقة، فلماذا يأتي العالم ليغير هذا النظام؟
نقول إن العالم هو الذي يتعب نفسه، ويتعب الدنيا، فعمل المرأة شقاء لها،
فمهمتها هي البيت، وليس عندها وقت لأي شيء آخر، فإذا عملت فذلك على حساب أولادها
وبيتها وزوجها...ومن هنا ينشأ الشقاء في المجتمع، فيضيع الأولاد، ويهرب الزوج إلى
مكان فيه امرأة تعطيه السكن الذي يحتاج إليه، وينتهي المجتمع إلى فوضى".[15]
هذه السنة الإنسانية التي تضبط حياة الفرد داخل النظام الأسري أبرزها
الإمام الشعراوي عن طريق منهج التحليل وبيان أسبابها ونتائجها.
· قال تعالى: {قُلْنَا
اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة: 38.
هذه الآية تندرج ضمن سنن الهداية، والمقصود بها "مجموعة من القواعد
والقوانين التي رسمها الله تعالى من أجل إصلاح الناس في الدنيا حتى يسعدوا في
الآخرة، على مقتضى حكمته ومشيئته المطلقة".[16]
وقد بين الشعراوي هذه السنة في قوله: "والحق سبحانه وتعالى في هذه الآية
من مشى في طريق الإيمان الذي دللته عليه، وأنزلته في منهجي، فلا خوف عليهم، أي أنه
لا خير سيفوتهم فيحزنوا عليه، لأن كل الخير في منهج الله، فالذي يتبع المنهج لا
يخاف حدوث شيء أبدا".[17]
فقد بين الشعراوي هذا الناموس الإلهي عن طريق التحليل وترتيب الجزاء على وقوع
الفعل، فكل من اتبع هدى الله فهو آمن وسعيد في الدنيا والآخرة.
·
قال تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا
مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسَكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} البقرة: 87.
يستنبط الشعراوي من هذه الآية سنة من سنن الهداية، وهي إرسال الرسل للأمم
لكي تبين لهم الحق وتخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وهذه سنة الله تعالى
منذ خلق آدم، فكلما طغى قوم أرسل لهم رسولا وأيده بالمعجزات حتى يؤمنوا به، إلى أن
ختم بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن وهي الخاتمة الخالدة.
يقول الإمام الشعراوي بصدد هذه السنة الإلهية: "إن الحق يريد أن نلتفت
إلى أن رسالة موسى لم تقف عند موسى وكتابه ولكنه سبحانه أرسل رسلا وأنبياء ليذكروا
وينبهوا...فكثرة الأنبياء والرسل دلالة على كثرة فساد الأمة، لأن الرسل يجيئون
لتخليص البشرية من فساد وأمراض وإنقاذها من الشقاء، وكلما كثر الرسل والأنبياء دل
ذلك على أن القوم قد انحرفوا بمجرد ذهاب الرسول عنهم، ولذلك كان لابد من رسول
جديد".[18]
من هنا نقول أن إرسال الرسل للأمم التي ضلت عن طريق الحق سنة إلهية تندرج
تحت سنن الهداية.
·
قال تعالى: {فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَا ءَامَنتُم بِهِ
فَقَدْ اِهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} البقرة: 137.
يقرر الله تعالى بهذه الآية قانون تأييده لرسله وتثبيت فؤادهم، يقول
الشعراوي مبرزا هذه السنة الإلهية: "الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله
عليه وسلم إذا حاول اليهود والنصارى والمنافقون أن يكيدوا لك ويؤذونك والمؤمنين،
فالله سبحانه وتعالى يكفيك لأنه عليم بصير لا يخفى عليه شيء"[19]، هكذا يؤيد الله تعالى نبيه ويبعث في قلبه الأمن
والطمأنينة.
خــــــــــــــاتمة:
من هنا وانطلاقا من هذه النماذج التطبيقية
يمكن أن نخلص إلى أن الإمام الشعراوي لم يصرح نهائيا بالسنن الإلهية التي اشتملت
عليها الآيات القرآنية، وإنما يعرض للسنة الكونية أو الشرعية بالتحليل واستقراء
الآيات الدالة عليها والمعضدة لمقتضاها فقط، مع ربطها بالواقع وتنزيلها على حال المجتمعات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] علم السنن الإلهية من الوعي النظري إلى
التأسيس العملي، د.أبو اليسر رشيد كهوس، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، الطبعة
الأولى 2017. ص: 7.
[2] السنن الإلهية
وتفسير القرآن الكريم في العصر الحديث، إعداد الطالب عمر الحيدوسي، إشراف د.عبد
الحميد بوكعباش، بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصص كتاب
وسنة، السنة الجامعية 1432-1433هـ/2011-2012م. ص: 7.
[3] منهج
الشعراوي في تفسيره، إعداد إبراهيم عيسى إبراهيم صيدم، إشراف د.عصام العبد زهد،
رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير، قسم التفسير وعلومه من كلية أصول الدين في
الجامعة الإسلامية بغزة، العام الجامعي: 1421هـ/2000م. ص: 162-227-330-358 بتصرف.
[4] المصدر نفسه،
ص: 39.
[5] السنن
الإلهية وتفسير القرآن الكريم في العصر الحديث، ص: 297 بتصرف يسير.
[6] علم السنن
الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، ص: 42-43.
[7] تفسير
الشعراوي، الإمام محمد متولي الشعراوي، راجع أصله وخرج أحاديثه أ.د.أحمد عمر هاشم
نائب رئيس جامعة الأزهر، 1/188.
[8] المصدر
نفسه، 1/188.
[9] المصدر
نفسه، 1/223-224-227.
[10] المصدر
نفسه، 1/230.
[11] علم
السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، ص: 96.
[12] تفسير
الشعراوي، 1/235.
[13] المصدر
نفسه، 1/236.
[14] المصدر
نفسه، 1/242-253.
[15] المصدر
نفسه، 1/267.
[16] علم
السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، ص: 49.
[17] تفسير
الشعراوي، 1/278.
[18] المصدر نفسه، 1/444.
[19] المصدر
نفسه، 1/611.