الشروح
الحديثية المغاربية وأهميتها
في النهوض
بالفكر الإسلامي المعاصر
الحمد للّه الذي أنزل الكتاب وأرسل رسوله
بالهدى ليبيّنه أحسن البيان، فكانت سنّته ﷺ مَنهجُ المسلم وطريقه نحو الصواب، وقد
قيّض الله تعالى لحفظها رجالا أفنوا عمرهم في شرحها وبيان ما فيها من شرع الله
تعالى للأنام، والصلاة والسلام على خاتم الرسل سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام،
وبعد:
إن الاشتغال بعلم دراية الحديث أو فقه حديث
النبي صلى الله عليه وسلم لمن أشرف العلوم، وأعلاها قدرا، وأعظمها نفعا، إذ
بدراسته يتوصل إلى معرفة أحكام الشرع وحِكمه، وبه يكشف عن مراد النبي ﷺ من أقواله
وأفعاله وتقريراته، وذلك بمعرفة لغة الحديث وغريبه وناسخه ومنسوخه ومختلفه ومشكله،
واستنباط حِكمه وأحكامه، بحسب قواعد اللغة العربية وأصول الشريعة الإسلامية.
وقد عَرَفَ الغرب الإسلامي
الريادة في شرح الحديث النبوي وفقهه، حيث اشتغل فقهاؤه بمصادر السنة الكبرى وأفنوا
عمرهم في خدمتها؛ شرحا لألفاظها، وتقريبا لمعانيها، واستنباطا لأحكامها، فاشتهروا
في مشارق الأرض ومغاربها، كابن عبد البر، والإمام الباجي، وابن العربي، والإمام
المازري وغيرهم، حتى أصبحت مؤلفاتهم مرجعا لعلماء المشرق يقتبسون منها ويحيلون
عليها، وصارت كتاباتهم وإسهاماتهم في هذا المجال مصدر مهم للفقه والتشريع الإسلامي،
لكونها تمثل منظومة فكرية ذات منهج قويم مبني على أسس علمية ومنهجية دقيقة.
وبالاطلاع على تاريخ الحركة
العلمية في الغرب الإسلامي يلاحظ أنه عرف نهضة علمية واكبت متطلبات ذلك العصر
وخاصة في القرن الخامس والسادس الهجري، حيث أنتج العقل المسلم في هذه الفترة ثروة
فقهية مهمة من خلال الشروح الحديثية، استطاعت مجابهة التحديات الفكرية والعقائدية
التي كانت تثيرها الفرق الكلامية والتعصبات المذهبية، وذلك لأنهم استندوا على أصول
نقلية وقواعد عقلية في تفسيراتهم واستدلالاتهم واستنباطاتهم، فرسموا بذلك منهجا
قويا يعصمهم من الخطأ والزلل في الفهم والتنزيل.
وبدراسة هذه الشروح يُماط
اللثام عن قواعد منهجية رصينة في التعامل مع الحديث النبوي سواء من جهة اللفظ أو
من جهة المعنى، إذ كتب فقه الحديث تشتمل على ثروة مهمة جدا من الناحية المنهجية في
فهم السنة النبوية، كما عُرِف منهج علماء الحديث بالريادة والسبق والدقة والضبط،
وهذا ما جعل البحث في مناهجهم ضرورة ملحة يفرضها واقعنا المعاصر، فعلماء الأمة
اليوم يسعون نحو معرفة مناهج العلوم الإسلامية للإفادة منها في بناء منهج فكري
سليم يقوم في وجه التحديات الفكرية المعاصرة.
والكلام عن كتب فقه الحديث في
الغرب الإسلامي يؤدي بالضرورة إلى الكلام عن المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية،
لكون هذه المنطقة والتي تمتد من القيروان شرقا إلى المغرب الأقصى فأرض الأندلس
غربا، عرفت انتشارا واسعا للمذهب المالكي حتى استحوذ على الساحة الفقهية المغربية،
ونفس الأمر بالنسبة للمذهب الأشعري والذي استطاع أن يستوطن هذه المنطقة بما يتميز
به من وسطية واعتدال، فكانت جلّ كتابات علماء الغرب الإسلامي تنتسب فقهيا للمذهب
المالكي وعقائديا للمذهب الأشعري.
وقد كان لعلماء فقه الحديث في
الغرب الإسلامي دور مهم في تأصيل فقه المالكية بالدليل وكذا في الدفاع عن العقيدة
الأشعرية وخاصة علماء القرن الخامس الهجري، كالإمام الباجي (ت:474ه) مثلا في كتابه
"المنتقى"، فالكتاب يعدّ التطبيق الفعلي لأصول الاستدلال عند المالكية
ولقواعد المناظرة والحجاج عن العقيدة الأشعرية، والتي جاءت نظريةً في كتابيه
"إحكام الفصول في أحكام الأصول" و"المنهاج في ترتيب الحجاج"،
فالرجل جعل من ميدان شرح أحاديث الموطأ الطريق إلى إعمال هذه الأصول والقواعد،
والاحتكام إليها عند الخلاف في فهم النص أو الاستنباط منه.
وتعدّ كتب فقه الحديث
من أهم المصادر التي تبيّن مراد النبي صلى الله عليه وسلم وفق منهج سليم، مع البعد
عن كثرة الخلاف والتأثر بالمناهج الدخيلة، وهذا ما يجعل البحث في هذه الأسفار من
الأهمية بمكان في تقليص هوة الخلاف المذهبي الذي يعاني منه تراثنا الإسلامي، وذلك
من خلال الكشف عن أسس الفهم الصحيح ومعاييره المؤدية إلى سداد الرأي في استنباط
الحكم الشرعي من الحديث النبوي، كما أن كتب فقه الحديث تعدّ من الشروحات الموسعة
للمذهب المالكي، تجمع غرر الفوائد الحديثية والفقهية والأصولية واللغوية والعقدية،
ومما يزيدها قيمة اعتمادها على كتب الذين سبقوهم من أعلام المذاهب وفطاحلته.
كما أن البحث في الشروح
الحديثية يسدّ فجوة من الفجوات العلمية في الدراسات الإسلامية، وهي الفجوة بين
المشتغلين بالفقه وأصوله والمشتغلين بالحديث وعلومه، لأن كتب فقه الحديث تجسد
التكامل المعرفي بين العلوم وخاصة الفقه وأصوله والحديث وعلومه فضلا عن اللغة والتفسير،
وبالبحث في منهجية أعلام فقه الحديث في الفهم والاستنباط والاستدلال، ستتضح
العلاقة الوثيقة بين هذه العلوم وتكاملها المعرفي، ومنه فعلى الفقهاء أن يتعمقوا
في علم الحديث وفروعه، كما على المحدثين إتقان الفقه وأصوله، وفي هذا يقول الإمام
محمد بن الحسن الشيباني –فيما حكاه عنه الإمام السرخسي-: "لا يستقيم العمل
بالحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم العمل بالرأي إلا بالحديث"[1].
إضافة إلى أنها ستسهم في حل الأزمة التي يعاني منها الدرس
العقدي الآن، حيث أن هذا الأخير يشكو من كثرة التعقيد والتجريد التي كان نتيجة
الامتزاج الذي حصل بين علم العقيدة ومباحث المنطق والفلسفة اليونانية، مما أدى به
إلى البعد عن حياة الناس وواقعهم، كما أنه يعاني من البعد عن المنهج القرآني
وبالتالي عن المنهج النبوي في بيان المسائل العقدية، وكتب فقه الحديث من المصادر
التي اتخذت الاستدلال النقلي العمدة الأولى في بسط العقيدة وبيانها للناس انطلاقا
من الخطاب النبوي، وبهذا يكون للبحث في منهجية التعامل مع القضايا العقدية في هذه
الكتب من بين الحلول المُتَطَلَّعِ إليها في الفكر الإسلامي المعاصر.
فضلا عن إزالة الثنائية التي
طرأت على علم الكلام؛ ثنائية "القديم والجديد"، "التقليدي
والحداثي" و"الثابت والمتحول"، والتي لا تتم إلا باستصحاب الأسس
المنهجية الأولى لعلم العقيدة في عملية الإصلاح والتجديد فيه، وهذه الأسس هي التي
جاءت في ثنايا الشروح الحديثية والتي تضمّ المنهج السليم نحو عقيدة واضحة ومقنعة
وضوح وإقناع قرآني، بعيدا عن فلسفات وتعقيدات المتكلمين.
ومما هو معلوم أن كتب فقه
الحديث من المصادر التي تجسد التكامل المعرفي الذي كانت تتميز به مؤلفات
المتقدمين، وهذا يمكن أن يكون المنطلق نحو نهضة علمية تقوم على حقيقة أن الاجتهاد
في العلم والمعرفة والإبداع فيهما في العصر الحاضر، لم يعد بإمكان الرجل الواحد في
تخصصه، وإنما أصبح العمل في شكل مجموعات للبحث تجمع كل من له صلة بالموضوع
المبحوث.
كما أنها ستسهم في تسهيل وفهم
القواعد الأصولية وأصول الاستدلال والتقعيد، بعيدا عن المباحث الكلامية والجدلية التي
أدّت إلى حشوها بما ليس منها، وذلك بما تشتمل عليه من تطبيقات فقهية لمناهج
الاستنباط والاستدلال والتقعيد لدى الفقهاء المحدثين.
وبهذا يتوجب على الباحثين الاهتمام بكتب فقه الحديث، بدراستها والبحث في مناهجها واستثمار ذلك في معالجة الأزمات الفكرية التي تعاني منها الأمة الإسلامية اليوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أصول
السرخسي، أبو بكر بن أبي سهل السرخسي، تحقيق أبو الوفا الأفغاني، عنيت بنشره لجنة
إحياء المعارف النعمانية –الهند-، 2/113.