الإمام أبو حامد الغزالي والأطوار التي مرّ بها في حياته الفكرية

 بسم الله الرحمن الرحيم

  

الإمام أبو حامد الغزالي والأطوار التي مرّ بها في حياته الفكرية

    أولا: نبذة عن حياة الإمام أبو حامد الغزالي

    هو محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الإمام الجليل، أبو حامد الغزالي، وُلد بطوس سنة خمسين وأربعمائة، كان أبو حامد أفقه أقرانه، وإمام أهل زمانه، وفارس ميدانه، كلمته شهد بها المُوافق والمخالف، وأقرّ بحقيّتها المعادي والمحالف.

    قَدِم نيسابور، ولازم إمام الحرمين، وجدّ واجتهد حتى برع في المذهب والخلاف والجدل والأصلين والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة وأحكم كل ذلك، ثم قَدِم بغداد، ودرّس بالنظامية، فأصبح عالي الرتبة، مسموع الكلمة، مشهور الاسم، تضرب به الأمثال وتشدّ إليه الرّحال، إلى أن عزفت نفسه عن رذائل الدنيا، فرفض ما فيها من التقدم والجاه، وترك كل ذلك وراء ظهره، وقصد بيت الله الحرام، ثم توجه إلى بيت المقدس، فجاور به مدة ثم عاد إلى دمشق[1]، وهناك ألف كتاب "إحياء علوم الدين" وكتاب "القسطاس" وكتاب "محك النظر" وغيرها، وراوض نفسه وجاهدها، وطرد شيطان الرعونة ولبس زي الأتقياء[2]، وقيل أنه عزم على المضيّ إلى السلطان يوسف بن تاشفين سلطان المغرب، لما بلغه من عدله، فبلغه موته.

    واستمر يجول في البلدان، ويزور المشاهد، ويطوف على التّرب والمساجد، ويأوي القفار، ويروّض نفسه، ويجاهد جهاد الأبرار، ويكلفها مشاق العبادات[3]، ثم رجع إلى مدينة طوس، واتخذ جانب داره مدرسة للفقهاء، وخنقاه للصوفية، ووزع أوقاته على وظائف؛ من ختم القرآن، ومجالس أرباب القلوب، والتدريس لطلبة العلم، وإدامة الصلاة والصيام وسائر العبادات، إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى سنة خمس وخمسمائة[4].

    يعتبر الغزّالي عالما فذّا عاش في عصر يعجّ بالتطورات السياسية والثقافية والاقتصادية، وباحتدام الصراع الفكري والمذهبي، وفي وسط ذلك الصراع صدع الغزالي بكلمة الحق مطالبا بالعودة إلى تحكيم القرآن والسنة في جميع أمور المسلمين، وأحب الغزالي التوسط في المسائل الخلافية، ومن ذلك تأثره بأبي الحسن الأشعري في مسائل العقيدة، والشافعي في مسائل الفقه. وقد عاش في عزلة اختيارية في أواخر أيامه حيث على التأليف هادفا إلى إرجاع الناس إلى القرآن والسنة[5].

    ثانيا: فكر الإمام الغزالي والأطوار التي مرّ بها

    قبل أن يستقر أمر الغزالي على التصوف، مر بمراحل كثيرة في حياته الفكرية، كما يرويها هو بنفسه في كتابه "المنقذ من الضلال"، فابتدأ بمرحلة الشك، والتي شك خلالها في الحواس والعقل وفي قدرتهما على تحصيل العلم اليقيني، ودخل في مرحلة من السفسطة غير المنطقية حتى شفي منها بعد مدة شهرين تقريبا، ليتفرغ بعدها لدراسة الأفكار والمعتقدات السائدة في وقته، وكل دراسة قام بها في علم من العلوم يمكن أن نطلق عليها مرحلة مستقلة مر بها فكره، ومنها:

1.     مرحلة علم الكلام:

    يقول أبو حامد الغزالي: "ثم إني ابتدأت بعلم الكلام، فحصلته، وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علما وافيا بمقصوده، غير واف بمقصودي، وإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة"[6].

   طالع الغزالي كتبا عديدة، وفهمها وأدرك حقيقتها، وألف كتبا عديدة في هذا المجال، لكنه لم يجد في علم الكلام ما يشفي عليله ويروي غليله، بل زاده ضنكا وضيقا في مسيرته الفكرية الرحبة، ومن جمله ما ألفه في هذا المجال؛ "الاقتصاد في الاعتقاد".[7]

2.     مرحلة الفلسفة:

    تحدث الغزالي عن هذه المرحلة قائلا: "ثم إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام، بعلم الفلسفة، وعلمت يقينا، أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه ويتجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائله، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقا"[8].

    لقد قام الغزالي بجهد عظيم ومهمة صعبة، لأنه كان أول متكلم يخوض غمار الفلسفة وموضوعاتها ومفرداتها من غير أستاذ ولا فيلسوف، يقول: "فشمرت على ساق الجدّ، في تحصيل ذلك العلم من الكتب، بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ...فأطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة، على منتهى علومهم في أقل من سنتين، ثم لم أزل أواظب على التفكير فيه...حتى اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس، وتحقيق وتخييل اطلاعا لم أشك فيه"[9].

3.     مرحلة التصوف:

    وصل الغزالي إلى المرحلة التي كان يبحث عنها، فوجد ضالته في هذا العالم الخاص، عالم الوجدان والشعور والذوق والكشف والفناء[10].

    يقول في المنقذ من الضلال: "ثم إني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله"[11].

    في هذه المرحلة وصل الغزالي إلى مرحلة الصمت والتيه، وهذا ما جعله يرحل من بغداد إلى مكة والشام وبيت المقدس ليختلي بنفسه. فماذا يحصد الغزالي في رحلته الطويلة هذه، والتي دامت عشر سنوات؟[12]

    يقول: "انكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به، إني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق".[13]

    من هنا لابد وأن أشير إلى تأثر الغزالي بالتصوف وانعكاس ذلك على أقواله في كل المجالات حتى مجال السياسة، فمجمل ما جاء في كتبه في هذا المجال أنه تكلم عن أربع مراتب للسياسة هي:

·       سياسة الأنبياء والمرسلين.

·       سياسة الملوك والسلاطين.

·       سياسة العلماء المتخصصين في دين الله.

·       سياسة الوعاظ.

    وبيّن الغزالي أن سياسة الأنبياء والمرسلين تهدف إلى إصلاح ظاهر وباطن جميع الناس، أما سياسة العلماء فينبغي أن توجه لإصلاح باطن النخبة الحاكمة، أما سياسة الوعاظ فترمي إلى إصلاح باطن العامة.

    ويؤكد الغزالي على أهمية التعاون بين الملوك والسلاطين والعلماء لصلاح السياسة ونجاحها، إلا أن الغزالي ينبه إلى وقائع هامة في تاريخنا الإسلامي، منها أنه بعد نهاية الخلافة الراشدة، اضطر الخلفاء والسلاطين للاستعانة بالعلماء والفقهاء لاستفتائهم في أحكامهم، إلا أن علماء العصر الأول ظلوا مستنكفين عن التعاون الكامل مع أولئك السلاطين، وألح الحكام في طلبهم والتودد إليهم، ولما رأى الناس عزّ العلماء وإقبال الحاكم عليهم اشرأبوا لطلب العلم لنيل العز والجاه، وطلبوا الولايات، فمنهم من حُرم ومنهم من نجح في مطلبه، لكن الذي نجح لم ينجح من ذّل الطلب، ومهانة الابتذال، وهكذا تبدل حال العلماء فأصبحوا طالبين بدلا من أن يكونوا مطلوبين.

    من خلال هذه الأسطر يتبيّن أن الإمام الغزالي قد وصل بعد رحلة الشك الحادة إلى المعرفة الحقيقية والتي وجدها في علم التصوف، فكان بذلك من مؤسسي علم التصوّف السني بما يتبنّاه الغزالي من فقه شافعي وعقيدة أشعرية، وألف في ذلك كتاب "الإحياء" جمع فيه بين علم الظاهر والباطن، وقد عرف الكتاب شهرة وانتشارا واسعا لم يعرفه أي كتاب من كتبه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي، تحقيق محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو، سنة الطبع: 1383ه/1964م، 6/191-194-197.                                         

[2] سير أعلام النبلاء، أبو الحسين الذهبي، تحقيق حسان عبد المنان، بيت الأفكار الدولية، طبعة 204م، 19/323.                                                                        

[3] طبقات الشافعية الكبرى، 6/199-200                                                                      

[4] المصدر نفسه، 6/200-201

[5] قراءة في فكر الإمام الغزالي، مقالة في جريدة الجزيرة، 25 صفر 1420.

[6] المنقذ من الضلال، الإمام الغزالي، اعتنى به محمد إسماعيل حزين وشذا رائق عبد الله، نشر موقع الفلسفة الإسلامية.ص:10.                                                              

[7] حجة الإسلام الغزالي، وأطواره الفكرية، عرفات كرم ستوتي، 2013، ص:3.                                    

[8] المنقذ من الضلال، ص:12                                                                                  

[9] المصدر نفسه، ص:12-13                                                                             

[10] حجة الإسلام الغزالي وأطواره الفكرية، ص:13                                                          

[11] المنقذ من الضلال، ص: 28 

[12] حجة الإسلام الغزالي وأطواره الفكرية، عرفات كرم ستوتي، ص: 13/14 بتصرف                   

[13] المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي، ص: 31                                                            
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -