السنة النبوية في المدرسة الشافعية -مكانتها العلمية وسلطتها المنهجية-

                                       

                                                              


 

السنة النبوية في المدرسة الشافعية
-مكانتها العلمية وسلطتها المنهجية-

 

    إن الفترة الزمنية التي عاش فيها الإمام الشافعي رحمه الله (ت:204ه) كانت من أهم القضايا المثارة آنذاك؛ قضية السنة النبوية، حيث رفض قوم الاستدلال بها للشك في نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، في حين استعان بها قوم آخرون في فهم القرآن لا في زيادة أحكام على ما جاء به[1].

   وبالتالي أصبح من الضرورات التاريخية التي كان على العقل العلمي المسلم التصدي لها هي موضوع السنة، وذلك بإثبات حجيتها وحاكميتها.

  وقد تبوأ الإمام محمد ابن إدريس الشافعي الصدارة على صعيد التأسيس والتأصيل المنهجي لحجية السنة وسلطتها[2]، ولتحرير القول في هذه المسألة نطرح الإشكالات التالية:

§       ما هي المكانة العلمية والسلطة المنهجية التي اكتسبتها السنة النبوية داخل المدرسة الشافعية؟

§       كيف أثبت الإمام الشافعي حجية السنة ودافع عنها؟

§       ما هو منهج الإمام الشافعي في التعامل مع السنة؟

    هذه الإشكالات سأجيب عنها من خلال العناوين التالية:

1.   مكانة السنة النبوية وثبوتها عند الشافعية.

2.   سلطة الخبر الواحد وقوته العلمية على أدلة المذهب.

3.   منهج الشافعي في دفع التعارض والترجيح بين النصوص.

   أولا: مكانة السنة النبوية وثبوتها عند الشافعية:

    تتضح مكانة السنة النبوية ومنزلتها عند الإمام الشافعي عند تقسيمه لأنواع العلم، حيث يقسم أدلة الشرع إلى خمسة أنواع، ويجعل في المرتبة الأولى الكتاب والسنة الثابتة[3]، يقول رحمه الله في كتابه الأم: "العلم طبقات شتى: الأولى الكتاب والسنة إذا ثبتت، ثم الثانية الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة أن يقول بعض أصحاب النبي ﷺ قولا ولا نعلم له مخالفا منهم، والرابعة اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والخامسة القياس على بعض الطبقات، ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من الأعلى"[4].

    فالإمام الشافعي في قوله هذا يضع السنة النبوية في المرتبة الأولى مع القرآن. لكننا نجده في موضع آخر من كتابه الأم يجعل السنة في الرتبة الثانية بعد القرآن الكريم وذلك في قوله: "العلم وجهان: اتباع واستنباط، والإتباع كتاب، فإن لم يكن فسنة، فإن لم يكن فقول عامة من سلف لا نعلم له مخالفا، فإن لم يكن فقياس على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فقياس على قول عامة من سلف لا مخالف له ولا يجوز القول إلا بالقياس، وإذا قاس من لهم القياس فاختلفوا، وسع أن يقول بمبلغ اجتهاده، ولم يسعه اتباع غيره فيما أدى إليه اجتهاده"[5].

    فهنا نجد الشافعي يصرح بأن الحكم يُبحث عنه أولا في الكتاب، ثم يُبحث عنه في السنة إن لم يكن في الكتاب، أو كان مجملا غير مفصل، أو محتاج إلى بيان"[6]. فما وجه الجمع بينهما؟

    يقول الشيخ أبو زهرة: "والتوفيق بين النصين ظاهر، فإنه يبين ما يجب أن يتبعه المجتهد، وهو طريق السلف إن وجدوا في القرآن فلا غناء فيما وراءه، وإن لم يجدوا يبحثون عن سنة مروية، وذلك لا ينافي أن مجموع السنة في مرتبة القرآن، لأنها مبينة ومفصلة، ولذلك قال الشاطبي: إن السنة حاكمة على الكتاب من حيث احتياجه إليها في البيان"[7].

    إذن فالسنة الثابتة في مجموعها أي باعتبارها وحي من الله تعالى هي في مرتبة القرآن، يقول الغزالي في المستصفى: "بعض الوحي يتلى فيسمى كتابا، وبعضه لا يتلى وهو السنة"[8]. أما من حيث الرجوع إليها من أجل استخراج الأحكام والاستدلال فهي في مرتبة ثانية بعد القرآن، وذلك لكونها ليست كلها قطعية الثبوت، إذ بعضها متواتر وبعضها آحاد، والآحاد لا يمكن أن يكون في مرتبة القرآن القطعي الثبوت.

    كما أن استقلالية السنة بالتشريع عند الشافعية تُبرز لنا المكانة التي تحتلها داخل المذهب، قال الشافعي في الرسالة: "وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم، فبحكم الله سنه، وكذلك أخبرنا الله في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطَ اللهِ﴾، وقد سن الله مع كتاب الله، وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وكل ما سن فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعها معصيته التي لم يعذر بها خلقا"[9].

    وطَرْحُ الإمام الشافعي لقضية استقلالية السنة بالتشريع والاستدلال لإثبات ذلك كانت ضرورة تاريخية فرضها الواقع، فقد انتشر في زمنه رأي سوء من قبل الزنادقة والخوارج وطوائف من غلاة الرافضة الذين ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة ولزوم الاقتصار على القرآن الكريم، لذا كان الشافعي من أبرز من تصدى لرأي هذه النابتة، فناظرهم وأطال الحجاج في الرد عليهم، وبيان فساد أصلهم وقولهم، وقد خصص لذلك جزءا وافرا في كتابه "جماع العلم" تحت عنوان [باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها] [10].

    كما ساق الشافعي حججا في كتابه "الرسالة" لإثبات حجية السنة، وذلك في مواجهته مع ثلاثة طوائف من المنكرين لها:

الطائفة الأولى: أنكرت حجية السنة جملة.

الطائفة الثانية: أنكرت حجية ما زاد على القرآن منها.

الطائفة الثالثة: أنكرت حجية أخبار الآحاد أو أخبار الخاصة.

    ولقد تصدى الشافعي لرد أقوال هذه الطوائف جميعها، وأخذ في رسالته يدلي بالحجة تلو الحجة من كتاب الله، يثبت بها حجية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم[11].

    وقد انطلق الشافعي في الاستدلال بالقرآن لكون الخصم يسلم به، فساق مجموعة من النصوص، قال رحمه الله: "ففرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله، فقال في كتابه: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمُ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمُ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[12]، وقال: ﴿وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً[13]".[14]

    وقد اتجه الشافعي هنا إلى أن "الحكمة" في هاتين الآيتين معناها السنة، لأن الله عطفها على الكتاب، وذلك يقتضي المغايرة، فوجب أن يكون المراد بها شيئا خارجا عن الكتاب، وليس ذلك إلا سنة رسول الله، ويؤكده أن ذكر الحكمة مع الكتاب جاء في معرض المن على العباد بتعليمهم إياها، ولا يكون المن من الله إلا بما هو حق وصواب، فكانت  الحكمة لازمة الاتباع كالقرآن[15].

    وقال الشافعي رحمه الله: "فذكر الله الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول الله"[16].

وغير ذلك من الآيات التي ساقها الشافعي وهي مبثوثة في كتبه.

    ثم جعل الشافعي طاعة الله في طاعة رسوله فقال: "وقد وضع الله رسوله من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علما لدينه، بما افترض من طاعته، وحرم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به"[17]، ثم قال: "ويعلمون أن اتباع أمره طاعة الله، وأن سنته تبع لكتاب الله فيما أنزل، وأنها لا تخالف كتاب الله أبدا"[18].

    ويقول رحمه الله: "وإن قول من قال تعرض السنة على القرآن فإن وافقت ظاهره، وإلا استعملنا ظاهر القرآن وتركنا الحديث جَهْلٌ –لما وصفت- فأبان الله لنا أن سنن رسوله فرض علينا بأن ننتهي إليها لأن لنا معها من الأمر شيئا إلا التسليم لها واتباعها ولا أنها تعرض على قياس ولا على شيء غيرها، وأن كل ما سواها من قول الآدميين تبع لها"[19].

    كما دافع الإمام عن خبر الخاصة بكل ما أوتي من قوة استدلالية حجاجية، واستعمل أدلة نقلية عديدة منها قوله: "فإن قال قائل فأين الدلالة على قبول خبر الواحد عن رسول الله، قيل له: إن شاء الله كان الناس مستقبلي بيت المقدس ثم حولهم الله إلى البيت الحرام، فأتى أهل قباء آت وهم في الصلاة، فأخبرهم أن الله أنزل على رسوله كتابا وأن القبلة حولت إلى البيت الحرام، فاستداروا إلى الكعبة وهم في الصلاة"[20].

    وقد أطال الشافعي في الاستدلال لحجية الخبر الواحد، وهنا يجب أن ننبه على أنه بالرغم من أن الشافعي يعتبر خبر الواحد المستوفي شروطه حجة ملزمة يجب على المسلمين اتباعها وتطبيقها، إلا أنه لا يسوي حجيته بحجية القرآن أو السنة المجتمع عليها تسوية مطلقة[21]، يقول رحمه الله: "أما ما كان نص كتاب بَيِّنٍ أو سنة مجتمع عليها فالعذر فيها مقطوع، ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع عن قبوله استتيب، فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملا للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد: فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين، حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصا منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله، ولو شك في هذا شاك لم نقل له تب، وقلنا: ليس لك –إن كنت عالما- أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله هو ولي ما غاب عند منهم"[22].

    انطلاقا من إثبات الشافعي وتأصيله المنهجي لحجية السنة عامة، ولخبر الواحد خاصة، تبين لنا المكانة التي احتلتها السنة داخل المدرسة الشافعية، وكذلك السلطة التي أعطاها الإمام الشافعي للسنة حيث جعلها مستقلة بالتشريع، وكذا احتلالها للمرتبة الأولى مع القرآن الكريم في ترتيبه لأصول مذهبه.

    ثانيا: سلطة الخبر الواحد وقوته العلمية على أدلة المذهب:

1.   الخبر الواحد ومخالفته للقياس:

    يقول الإمام الجويني رحمه الله (ت:478ه): "القياس مناط الاجتهاد، وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه، وأساليب الشريعة، وهو المفضي إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع، مع انتفاء الغاية والنهاية، فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة، ومواقع الإجماع معدودة مأثورة، فما ينقل منها تواترا، فهو المستند إلى القطع وهو معوز قليل، وما ينقله الآحاد عن علماء الأعصار ينزل منزلة أخبار الآحاد، وهي على الجملة متناهية، ونحن نعلم قطعا أن الوقائع التي يتوقع وقوعها لا نهاية لها. والرأي المبثوث المقطوع به عندنا: أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى، متلقى من قاعدة الشرع، والأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع القياس"[23].

    من خلال قول الإمام الجويني يتبين لنا منزلة القياس في التشريع الإسلامي، لكن عندما يتعارض القياس مع خبر المنفرد أو خبر الخاصة ما هو موقف الشافعية في ذلك؟

    قبل الإجابة عن هذا الإشكال لا بد من الإشارة إلى رتبة القياس بين الأدلة عند الشافعية.

    أما مرتبة القياس عند الشافعي فهي الخامسة بين الأدلة، وهي مُرَتَّبَةً في قوله: "العلم طبقات شتى: الأولى الكتاب والسنة إذا ثبتت، ثم الثانية الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة أن يقول بعض أصحاب النبي ﷺ قولا ولا نعلم له مخالفا منهم، والرابعة اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والخامسة القياس على بعض الطبقات، ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من الأعلى"[24].

    من خلال هذا القول يتبين جليا أن القياس عند الشافعي يأتي في المرتبة الأخيرة، وأنه موضع ضرورة لا يصار إليه إلا عند عدم وجود النص من كتاب أو سنة أو إجماع صحيح أو أثر صحابي، قال رحمه الله: "ونحكم بالإجماع ثم القياس، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلة ضرورة لأنه لا يحل القياس والخبر موجود، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء، إنما يكون طهارة في الإعواز، وكذلك يكون ما بعد السنة حجة إذا أعوز من السنة"[25].

    وبعد بيان مرتبة القياس بين الأدلة عند الشافعي، لابد من بيان المراد بالقياس عند الأصوليين.

    القياس يطلق عند الأصوليين والفقهاء ويراد به أحد المعنيين:

الأول: القياس بمعنى القواعد المقررة شرعا، والمراد به: ما تعاضدت عليه عمومات نصوص الكتاب والسنة، وشهد له كثير من الأدلة والفروع، حتى أصبح كالقاعدة المقررة والأصل الذي تعرض عليه المسائل الجزئية.

الثاني: القياس الأصولي أو الفقهي،[26] وهو: "حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما"[27].

    فالإشكال الذي يطرح نفسه هنا، ما هو القياس الذي يُرَدُّ بالخبر الواحد عند الشافعية؟

    الظاهر في كتب الأصول عند الشافعية أن القياس الذي يتعارض مع الخبر الواحد هو القياس الفقهي الأصولي، أما القياس الذي يراد به القواعد الشرعية المقررة فهذا لا يمكن أن يتعارض مع الخبر الواحد لأن كلاهما أصل؛ إذ الحديث إذا ثبت صار أصلا في نفسه، والأصول لا تتعارض بل يجب إتباعها كلها، لأنها كلها من عند الله، وهذا ما قرره الشافعي عندما صرح بأن خبر الآحاد أصل بذاته يجب إتباعه، قال رحمه الله: "وتثبيت خبر الواحد أقوى من أن أحتاج إلى أن أمثله بغيره، بل هو أصل في نفسه"[28]. وبالتالي يبقى التعارض بين الخبر والقياس الفقهي المعروف[29].

    يقول الآمدي (ت:631ه) في الإحكام: "خبر الواحد إذا خالف القياس، فإما أن يتعارضا من كل وجه بأن يكون أحدهما مثبتا لما نفاه الآخر، أو من وجه دون وجه، بأن يكون أحدهما مخصصا للآخر، فإن كان الأول، فقد قال الشافعي رضي الله عنه وأحمد بن حنبل والكرخي وكثير من الفقهاء: إن الخبر مقدم على القياس، وقال أصحاب مالك: يقدم القياس، وقال عيسى بن أبان: إن كان الراوي ضابطا عالما غير متساهل فيما يرويه، قدم خبره على القياس، وإلا فهو موضوع اجتهاد"[30].

    وتحرير القول في المسألة يقوم على سؤال وهو متى تتحقق المعارضة بين خبر الواحد والقياس؟ والإجابة عليه تتضح من خلال تحرير محل النزاع بين علماء الشافعية في المسألة.

    وقد حصر الإمام أبو الحسين البصري (ت:436ه) محل النزاع في هذه المسألة وحكى قوله الآمدي في الإحكام يقول: "وفصل أبو الحسين البصري فقال: علة القياس الجامعة إما أن تكون منصوصة أو مستنبطة، فإن كانت منصوصة، فالنص عليها إما أن يكون مقطوعا به أو غير مقطوع، فإن كان مقطوعا به، وتعذر الجمع بينهما، وجب العمل بالعلة لأن النص على العلة كالنص على حكمها، وهو مقطوع به، وخبر الواحد مظنون، فكانت مقدمة. وإن لم يكن النص على العلة مقطوعا به، ولا حكمها في الأصل مقطوعا به، فيجب الرجوع إلى خبر الواحد لاستواء النصين في الظن، أو اختصاص خبر الواحد بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة، بخلاف النص الدال على العلة، فإنه إنما يدل الحكم بواسطة العلة، وإن كان حكمها ثابتا قطعا فذلك موضع الاجتهاد، وإن كانت العلة مستنبطة فحكم الأصل إما أن يكون ثابتا بخبر واحد أو بدليل مقطوع به، فإن كان ثابتا بخبر واحد فالأخذ بالخبر أولى، وإن كان ثابتا قطعا، فينبغي أن يكون هذا موضع خلاف بين الناس، ومختاره أنه مجتهد فيه"[31].

    وقد علق الآمدي على ذلك بقوله: "والمختار في ذلك أن يقال: إما أن يكون متن خبر الواحد قطعيا أو ظنيا، فإن كان متنه قطعيا فعلة القياس إما أن تكون منصوصة أو مستنبطة، فإن كانت منصوصة، وقلنا إن التنصيص على علة القياس لا يخرجه عن القياس، فالنص الدال عليها إما أن يكون مساويا في الدلالة لخبر الواحد، أو راجحا عليه أو مرجوحا، فإن كان مساويا فخبر الواحد أولى لدلالته على الحكم من غير واسطة، ودلالة نص العلة على حكمها بواسطة، وإن كان مرجوحا فخبر الواحد أولى مع دلالته على الحكم من غير واسطة. وإن كان راجحا على خبر الواحد، فوجود العلة في الفرع إما أن يكون مقطوعا به أو مظنونا: فإن كان مقطوعا به فالمصير إلى القياس أولى، وإن كان وجودها فيه مظنونا، فالظاهر الوقف؛ لأن نص العلة وإن كان في دلالته على العلة راجحا، غير أنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة، وخبر الواحد لا بواسطة، فاعتدلا. وأما إن كانت العلة مستنبطة؛ فالخبر مقدم على القياس مطلقا"[32].

    وخلاصة قول الآمدي أنه يقدم الخبر على القياس في حالتين:

الأولى: أن تكون علة القياس منصوصا عليها بنص مساو في الدلالة لخبر الواحد أو مرجوحا عنه، وذلك لأن الخبر يفيد بنفسه، والقياس بواسطة.

الثانية: أن تكون العلة مستنبطة، فيقدم الخبر على القياس مطلقا.

ويقدم القياس في حالة واحدة وهي: ما إذا كانت العلة ثابتة بنص راجح على الخبر في الدلالة، وكان وجودها في الفرع مقطوعا به، أما إن كان وجودها مظنونا فالتوقف[33].

    وقد ذهب الإمام الرازي (ت:604) في المسألة إلى أنه يجب النظر في مقدمات القياس، يقول في المحصول: "إذا كان كل واحد منهما مبطلا لكل مقتضيات الآخر فنقول: ذلك القياس لابد وأن يكون أصله قد ثبت بدليل، وذلك الدليل إما أن يكون هو ذلك الخبر أو غيره، فإن كان الأول فلا نزاع أن الخبر مقدم على القياس. وإن كان الثاني فهذا يحتمل وجوها ثلاثة؛ وذلك لأن القياس يستدعي أمورا ثلاثة: أحدها: ثبوت حكم الأصل، وثانيها: كونه معللا بالعلة الفلانية، وثالثها: حصول تلك العلة في الفرع. ثم لا يخلو كل واحد –من هذه الثلاثة- إما أن تكون قطعية، أو ظنية، أو بعضها قطعي وبعضها ظني.

فإن كان الأول: كان القياس مقدما على خبر الواحد لا محالة. لأن هذا القياس يقتضي القطع، وخبر الواحد يقتضي الظن، ومقتضى القطع مقدم على مقتضى الظن.

وإن كان الثاني كان الخبر لا محالة مقدما على القياس، لأن الظن كلما كان أقل كان بالاعتبار أولى.

وإن كان الثالث فهذا يحتمل أقساما كثيرة، ونحن نعين منها صورة واحدة وهي أن يكون دليل ثبوت الحكم في الأصل قطعيا، إلا أن كونه معللا بالعلة المعينة، ووجود تلك العلة في الفرع ظنيا، فهنا اختلفوا: فعند الشافعي رضي الله عنه الخبر راجح. وعند مالك رحمه الله القياس راجح. وقال عيسى بن أبان: إن كان راوي الخبر ضابطا عالما: وجب تقديم خبره على القياس، وإلا كان في محل الاجتهاد. وقال أبو الحسن البصري: طريق ترجيح أحدهما على الآخر: الاجتهاد؛ فإن كانت أمارة القياس أقوى عنده من عدالة الراوي، وجب المصير إليها، وإلا فبالعكس. ومن الناس من توقف"[34].

    وحاصل قول الإمام الرازي: أن الخبر والقياس إذا تنافيا من كل وجه: نظر في مقدمات القياس، فإن كانت ثابتة بدليل قطعي قدم القياس على خبر الواحد، وإن لم تثبت بدليل قطعي بأن كانت ظنية قدم الخبر على القياس، ومحل الخلاف ما إذا كان بعض المقدمات قطعيا وبعضها ظني[35].

    أما رأي الإمام الشافعي فهو تقديم الخبر على القياس وذلك واضح من خلال ترتيبه للأدلة، وكذا من خلال أقواله وتوسعه في العمل بالخبر الواحد، إضافة إلى اعتباره القياس من الاجتهاد، وذلك عندما عرف الاجتهاد بقوله: "والاجتهاد القياس".

    والاجتهاد رأي، والخبر الثابت مقدم على الرأي مطلقا، ولا يمكن مخالفته، يقول رحمه الله: "وأما أن نخالف حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا عنه فأرجو أن لا يؤخذ ذلك علينا"[36].

    وفي مسألة "إذا عارض الخبر الواحد القياس" نجد حديثا مشهورا في كتب الأصول كمثال عليها، وهو حديث (المصراة).

    والحديث رواه الإمام الشافعي في كتاب اختلاف الحديث باب المصراة الخراج بالضمان، قال: أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر}[37].

    ومعنى التصرية: قال الشوكاني (ت:1250ه): "قال الشافعي: التصرية هي ربط أخلاف الشاة أو الناقة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها"[38].

    وظاهر الحديث يقتضي أن من اشترى شاة مصراة وهو لا يعلم، ثم علم، فله الخيار بين الإمساك والرد وصاعا من تمر. وعمل بهذا الظاهر جمهور أهل العلم؛ منهم مالك في المشهور عنه، والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم، ولم يأخذ به الأحناف.

    ويعود الخلاف في الأخذ بهذا الحديث إلى أنه معارض لما يسمى بقياس الأصول، ومن بين هذه الأصول: أصل "الخراج بالضمان". وهو حديث رواه الشافعي في اختلاف الحديث، قال: أخبرنا مسلم عن هشام عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الخراج بالضمان}[39].

    وتحرير رأي الإمام الشافعي في المسألة: أن الشافعي أخذ الحديث وعمل به، وذلك تمشيا مع أصله وهو أن الحديث متى صح عن رسول الله فإنه يجب العمل به.

    وقد عقد في كتابه "اختلاف الحديث" بابين متعلقين بهذه المسألة، وقد أشار بداية إلى الخلاف القائم في المسألة[40]، حيث قال: "فخالفنا بعض الناس في المصراة فقال: الحديث فيها ثابت ولكن الناس كلهم تركوه، فقلت له: أفتحكي لي عن أحد من أصحاب رسول الله أنه تركه؟ قال لا. قلت: فأنت تحكي عن ابن مسعود أنه قال فيها مثل معنى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت له: أو تحكي عن أحد من التابعين أنه تركه فما علمته ذكر في مجلسه ذلك أحدا منهم يخالفه، قال: إنما عنيت بالناس المفتين في زماننا أو قبلنا لا التابعين، قلت له: أتعني بأي البلدان؟ قال: الحجاز والعراق، فقلت له: فاحك لي من تركه بالعراق، قال أبو حنيفة لا يقول به وأصحابه..."[41].

    وقد بنى الشافعي رده على مخالفيه في المسألة على أمرين هما:

    الأول: أنه لا تعارض بين الحديثين (الضمان والمصراة)، فكل منهما يطبق ويعمل به في صورة معينة، حيث بين رحمه الله أن اللبن الناشئ في ضرع الشاة المصراة ليس كالخراج الحادث في ملك المشتري فهما صورتان مختلفتان افترقا في الحكم[42]. قال رحمه الله: "وفي حديث المصراة شيء ليس في حديث الخراج بالضمان، وذلك أنه مبتاع الشاة أو الناقة المصراة مبتاع لشاة أو ناقة فيها لبن ظاهر وهو غيرهما كالثمر في النخلة الذي إذا شاء قطعه وكذلك اللبن إذا شاء حلبه، واللبن مبيع مع الشاة وهو سواها، وكان في ملك البائع فإذا حلبه ثم أراد ردها بعيب التصرية ردها وصاعا من تمر، كثر اللبن أو قل"[43].

    وخلاصة قول الشافعي أنه لا تعارض بين الحديثين، إذ الخراج هو الغلة الحادثة بعد العقد وهو في ملك المشتري، أما حديث المصراة فهو يندرج تحت ما كان حادثا أصلا في ملك البائع، وهو لا يندرج تحت قاعدة الخراج بالضمان.

    الثاني: أن حديث المصراة حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أصل بذاته، فرض على المكلفين العمل به والتسليم بمقتضاه[44].

    وعلى هذا النهج سار علماء الشافعية من بعده في المسألة.

2.   مخالفة الإجماع للحديث المنفرد:

    يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "يحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها، الذي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ويحكم بالسنة قد رويت من طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها، فنقول حكمنا بالحق في الظاهر، لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث، ونحكم بالإجماع ثم القياس، وهو أضعف من هذا"[45].

    انطلاقا من قول الإمام الشافعي تتضح لنا مرتبة الإجماع عنده بين أدلة مذهبه، لكن ما هو الإجماع الذي يعده الشافعي دون مرتبة الخبر الواحد؟

    ومن خلال قول الشافعي يتبين أن الإجماع عنده على ضربين:

الأول: الإجماع المشترك فيه بين العامة والخاصة، وهذا قطعي معلوم من الدين بالضرورة، يكفر من خالفه متعمدا، كما هو الشأن في أعداد الصلوات وركعاتها وفرض الحج والصيام وزمانهما، ومثل تحريم الزنا وشرب الخمر والسرقة والربا.

الثاني: إجماع الأمة الخاصة، وذلك مما ينفرد بمعرفته أهل العلم في الغالب، وهذا ظني ظاهر  لا يحكم بكفر مخالفه، ولكنه على خطأ عظيم وضلال مبين، كتحريم المرأة على عمتها وخالتها، ومنع وصية الوارث[46].

    وهذا القسم هو الذي عدّه الشافعي في الرتبة بعد الخبر المنفرد، وإلى هذا أشار محقق كتاب الرسالة للشافعي محمد شاكر في حاشية الكتاب إذ يقول: "الذي يظهر لي أن الشافعي يريد بقوله (وهو أضعف من هذا) أن الحكم بالإجماع والقياس أضعف من الحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها، والسنة التي رويت بطريق الإنفراد، وأنه يريد بالإجماع هنا اتفاق العلماء المبني على الاستنباط أو القياس، لا الإجماع الصحيح الذي هو قطعي الثبوت، وهو الذي فسره مرارا في كلامه بما يفهم منه أنه المعلوم من الدين بالضرورة، كالظهر أربع، وكتحريم الخمر وأشباه ذلك"[47].

    من هنا نطرح إشكالا: ما هو منهج الشافعي عند تعارض الخبر الواحد مع الإجماع الظني أو إجماع الخاصة؟

    من خلال كلام الشافعي في الرسالة يتبين لنا أنه يقدم السنة الثابتة على الإجماع، والمقصود إجماع الخاصة لا إجماع العامة، لأنه على المعنى الثاني يقدم إجماع العامة على خبر المنفرد، وقد جاء في كتاب آداب الشافعي ومناقبه لأبي حاتم الرازي ما نصه: "أنا أبو محمد، أخبرنا أبي، سمعت يونس بن عبد الأعلى، قال محمد بن إدريس الشافعي: (الأصل قرآن أو سنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد منه فهو سنة، والإجماع أكبر من الخبر المنفرد)"[48]، والمقصود بالإجماع هنا إجماع العامة، وهو ما علم من الدين بالضرورة.

    وقد أشار صاحب المحصول إلى المنهج المتخذ في المسألة فقال: "إذا أجمعوا على شيء وعارضه قول رسول الله ﷺ، فإما أن يعلم أن قصد النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه ما هو ظاهره، وقصد أهل الإجماع بكلامهم ما هو ظاهره، أو يعلم أحدهما دون الثاني، أو لا يعلم أحد منهما، والأول غير جائز لامتناع تناقض الأدلة، وإن كان الثاني قدمنا ما علم ظهوره، وإن كان الثالث فإن كان أحدهما أخص من الآخر خصصنا الأعم بالأخص توفيقا بين الدليلين بقدر الإمكان، وإن لم يكن كذلك: تعارضا، لأنا نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم والأمة أراد أحدهما بكلامه غير ظاهره، لكنا لا نعلم أيهما كذلك: فلا جرم يتساقطان، والله أعلم"[49].

    ومضمون هذا القول نجده عند شارح "الرسالة" محمد المبارك، إذ علق على قول الشافعي وهو ما أختم به هذه المسألة، قال: "فلا وجود لإجماع يخالف نصا أبدا، ولا تترك سنة ثابتة أبدا إلا بسنة ثابتة، ويمتنع انعقاد الإجماع على خلاف سنة إلا ومع الإجماع سنة معلومة نعلم أنها ناسخة للأولى، فلا يتصور أن تجتمع الأمة على مخالفة نص إلا ومعها نص معلوم يعلمون أنه ناسخ للأول، فدعوى تعارض النص والإجماع باطلة، فإن النصوص معلومة محفوظة، والأمة مأمورة بتتبعها واتباعها، وبناء عليه فمن ادعى وقوع تعارض بين سنة ثابتة وإجماع، فالأمر لا يخلو من حالين: عدم صحة وقوع الإجماع أصلا، أو أن هذه السنة منسوخة، لكن لا بد أن يكون الناسخ لها محفوظا"[50].

    وخلاصة القول في مسألة سلطة خبر الواحد على القياس والإجماع عند الشافعية، أن الحديث الآحاد أصل بنفسه ومقدم عليهما لكون القياس وإجماع الخاصة اجتهاد ورأي غير مقطوع بهما، وبالتالي ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولو بطريق الآحاد مقدم عليهما وأقوى منهما.

    ثالثا: منهج الشافعي في دفع التعارض والترجيح بين الأدلة:

    انطلاقا من مرتبة السنة عند الشافعية، وكونها مصدرا مستقلا بالتشريع مثلها مثل القرآن، وكذا باعتبارها وحيا من الله تعالى، بناء على هذا فإنه من المحال أن يحصل بين نصوصها اختلاف وتعارض في حقيقة الأمر وواقعه، كما لا تعارض بين آي القرآن[51].

    ولهذا سلك الإمام الشافعي منهج التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف، أو ترجيح بعضها على بعض عند التعارض.

    يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "ولزم أهل العلم أن يمضوا الخبرين على وجوههما ما وجدوا لإمضائهما وجها، ولا يعدونهما مختلفين وهما يحتملان أن يمضيا، وذلك إذا أمكن فيهما أن يمضيا معا، أو وجد السبيل إلى إمضائهما، ولم يكن منهما واحد بأوجب من الآخر. ولا ينسب الحديثان إلى الاختلاف ما كان لهما وجها يمضيان معا، إنما المختلف ما لم يمضى إلا بسقوط غيره، مثل أن يكون الحديثان في الشيء الواحد، هذا يحله، وهذا يحرمه"[52].

    فالشافعي رحمه الله يُعَرِّفُ هنا "المختلف" بأنه ما لم يمضى إلا بسقوط غيره، وذلك بأن يأتي حديث يخالف في دلالته حديثا آخر، ويتواردان على محل واحد، ووقع بينهما من التدافع والتضاد في الدلالة، الأمر الذي يوجب ترجيح أحدهما على الآخر من جهة أن يكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، أما ما أمكن الجمع بينهما فلا يعدان من المختلف[53].

    وعرّف الإمام النووي (ت:676ه) الاختلاف بقوله: " هو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرا، فيوفق بينهما، أو يرجح أحدهما"[54].

    ومنهج الشافعي الجمع بين الحديثين ما أمكن الجمع، ولا يحكم بتعارض الحديثين إلا إذا لم يجد وجها يجمع به بين الحديثين. يقول في الرسالة: "ولم نجد عنه شيئا مختلفا فكشفناه إلا وجدنا له وجها يحتمل به ألا يكون مختلفا"[55].

ويقول أيضا: "وكلما احتمل حديثان أن يستعملا معا، استعملا معا ولم يعطل واحد منهما الآخر"[56].

    وقد ذكر الإمام الشافعي جملة من الأسباب التي تؤدي إلى تصور التعارض في أفهام المجتهدين سأذكرها باختصار:

    1-اختلاف الرواة في الحفظ والضبط والأداء.

    2-نقل الخبر بما يتضمنه من جواب عن سؤال ما بمعزل عن السؤال نفسه.

    3-عدم تفريق بعض السامعين بين اختلاف الحالين؛ وبيان ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يحكم حكما في حالة، وحكما آخر في حالة أخرى، فيروى عنه الحكمان أو الحديثان، فيفهم أنه تعارض، ولا تعارض عند التدقيق.

   4-اختلاف دلالة الأحاديث من حيث العموم والخصوص؛ فمقتضى كون رسول الله صلى الله عليه وسلم عربيا، ويخاطب الناس بمقتضى اللسان العربي، وما يتضمنه هذا اللسان من قواعد وأساليب مختلفة في طريق البيان؛ أن يكون بيانه للأحكام الشرعية تارة بصيغة العموم، وتارة بصيغة بالخصوص، فيرى في الظاهر أن فيها تعارضا، وليس كذلك.

  5- عدم العلم بالنسخ[57].

   أما طريقة الشافعي في دفع التعارض هي ما قرره بقوله: "إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله ﷺ ولا نترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا أبدا، إلا حديثا وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يخالفه. وإذا اختلفت الأحاديث عنه فالاختلاف فيها وجهان: أحدهما: أن يكون بها ناسخ ومنسوخ، فنعمل بالناسخ ونترك المنسوخ. والآخر: أن تختلف ولا دلالة على أيها الناسخ فنذهب إلى أثبت الروايتين، فإن تكافأتا ذهبت إلى أشبه الحديثين بكتاب الله وسنة نبيه فيما سوى ما اختلف فيه الحديثان من سنته، ولا يعد حديثان اختلفا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يوجد فيهما هذا أو غيره مما يدل على الأثبت من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"[58].

   فالإمام الشافعي يقسم الأحاديث المختلفة قسمين:

الأول: اختلاف عرف الناسخ منه من المنسوخ. وهنا يعمل بالناسخ ويترك المنسوخ، لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنسخ بسنته، ولا يصح أن يكون ذلك اختلافا إذ المنسوخ قد ألغي العمل به بالسنة نفسها وتصريحها.

والثاني: الاختلاف الذي لم يعرف فيها الناسخ من المنسوخ، وهذه يقسمها أيضا قسمين:

أحدها: ما أمكن التوفيق بينهما، وكان الاختلاف في ظاهر القول لا في المعنى، فإذا أمكن التوفيق بضرب من ضروبه سرنا إليه، ولا يسار إلى الاختلاف إلا حيث لا يكون إلى التوفيق سبيل.

وإذا لم يجد فيما بين يديه توفيقا، وهذا هو القسم الثاني وهو الاختلاف الذي لا يمكن التوفيق معه، أي أن الاختلاف في المعنى والظاهر، لا في ظاهر اللفظ فقط، هنا نجد الشافعي يسلك في ذلك ثلاثة مسالك كل واحد منهما يترتب على عدم إمكان سابقه:

    المسلك الأول: أنه يفرض التقدم والتأخر بين الحديثين، فيكون متأخر الحديثين ناسخا للمتقدم، ولكن روى الحديث راو من غير أن يعلم ناسخه، ويتحرى لتحقيق هذا الغرض، وسيصل إليه طالبه الباحث عنه إن كان ثمة نسخ، لأن ذلك إن غاب عن بعض العلماء لا يغيب عن عامة العلماء، فطالبه سيجده إن كان.

    المسلك الثاني: يوازن الشافعي بين الحديثين من حيث السند، فإذا كان الحديثان غير متكافئين من حيث الثبوت، بمعنى أن رواية أحدهما أقوى من رواية الآخر، يصار إلى الأثبت من الحديثين، فيؤخذ به ويهمل الآخر. يقول في الرسالة: "أو نجد الدلالة على الثابت منه دون غيره، بثبوت الحديث، فلا يكون الحديثان اللذان نسبا إلى الاختلاف متكافئين فنصير إلى الأثبت من الحديثين"[59].

  المسلك الثالث: أن يكون أحد الحديثين له دلالة من كتاب الله أو سنة النبي الثابتة، أو عليه شواهد في الجملة تؤيد معناه، فيصار إليه[60].

    وهذا ما قاله في الرسالة: "أو يكون على الأثبت منهما دلالة من كتاب الله أو سنة نبيه أو الشواهد التي وصفنا قبل هذا فنصير إلى الذي هو أقوى وأولى أن يثبت بالدلائل"[61].

    هذا ما قرره الشافعي في مختلف الحديث، وصار عليه العلماء من بعده. يقول الإمام النووي: "والمختلف قسمان: أحدهما يمكن الجمع بينهما فيتعين، ويجب العمل بهما، الثاني: لا يمكن الجمع بوجه، فإن علمنا أحدهما ناسخا قدمناه، وإلا عملنا بالراجح، كالترجيح بصفات الرواة وكثرتهم في خمسين وجها"[62].

    وقال ابن الصلاح (ت:643ه): "اعلم أن ما يذكر في هذا الباب ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يمكن الجمع بين الحديثين، ولا يتعذر إبداء وجه ينفي تنافيهما، فيتعين حينئذ المصير إلى ذلك، والقول بهما معا. والقسم الثاني: أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمع بينهما، وذلك على ضربين: أحدهما: أن يظهر كون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ. الثاني: أن لا تقوم دلالة على أن الناسخ أيهما والمنسوخ أيهما، فيفزع حينئذ إلى الترجيح، ويعمل بالأرجح منهما والأثبت..."[63].

    كان هذا هو منهج الشافعي ومن أتى بعده من الأصوليين في التعامل مع الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف.

    وقد جاء كتاب الشافعي "اختلاف الحديث"  كتطبيق لهذا المنهج الذي أَصَّلَهُ وَقَعَّدَ له، فجمع فيه مجموعة من الأحاديث التي وفق بينها ودفع التعارض عنها بوجه من الوجوه.

    ومن هذه الأوجه: كون الفعل فيها يختلف من جهة المباح. يقول الشافعي: "ومنها ما يكون اختلافا في الفعل من جهة أن الأمرين مباحان كاختلاف القيام والقعود وكلاهما مباح"[64].

    ومن أمثلة ما جاء في هذا الباب الاختلاف من جهة المباح: قال الشافعي: "أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضأ وجهه ويديه ومسح برأسه مرة مرة. قال: أخبرنا سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران مولى عثمان بن عفان، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا.

قال: أخبرنا مالك عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أنه سمع رجلا يسأل عبد الله بن يزيد هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فدعا بماء ثم ذكر أنه غسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين مرتين ومسح رأسه وغسل رجليه.

قال الشافعي: ولا يقال لشيء من هذه الأحاديث مختلف مطلقا، ولكن الفعل فيها يختلف من وجه أنه مباح لا اختلاف الحلال والحرام، والأمر والنهي، ولكن يقال: أقل ما يجزئ من الوضوء مرة، وأكمل ما يكون من الوضوء ثلاث"[65].

    هكذا وفّق الشافعي بين هذه الأحاديث، وله وجوه عديدة في الجمع بينها بدل إهمال إحداها كما سبق، والأمثلة على ذلك كثيرة وهي موجودة في كتابه"اختلاف الحديث".

    والملاحظ أن دفع التعارض إما أن يكون بالجمع أو الترجيح. والترجيح عند الأصوليين له صورا عديدة منها ما يرجع إلى السند ومنها بالنظر إلى المتن، يقول الرازي في المحصول: "ترجيح الخبر إما أن يكون بكيفية إسناده، أو بوقت وروده، أو بلفظه، أو بحكمه، أو بأمر خارج عن ذلك..."[66]، وتفصيل ذلك مبثوث في كتب الأصوليين.

    وخلاصة ما قرره الشافعي في دفع التعارض بطريق الجمع أو الترجيح هو كالتالي:

1-التوفيق بين الأحاديث المختلفة بجعل بعضها عاما وبعضها خاصا، أو بعضها مطلقا وبعضها مقيدا.

2-التوفيق بين الأحاديث المختلفة باختلاف الحال أو السبب اللذين ورد فيهما كل حديث.

3-التوفيق بين الأحاديث المختلفة بجعل بعضها ناسخا وبعضها منسوخا.

4-الترجيح بين الأحاديث المختلفة بكون بعضها أشبه بكتاب الله أو سنة رسول الله أو القياس، أو بكونها أثبت إسنادا.

5-التوفيق بين الأحاديث المختلفة بكون الفعل فيها يختلف من جهة المباح[67].

وهناك أوجه أخرى وهي مفصلة في كتبه رحمه الله.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الشافعي حياته وعصر- آراؤه وفقهه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، 1978، ص: 78 بتصرف.    

[2] منهجية  الإمام الشافعي في تثبيت حجية الخبر الواحد، محمد الطاهر الميساوي، مجلة التجديد، المجلد 16، العدد 32، 1434هـ/2012م، ص:14 بتصرف.         

[3] مكانة السنة عند الإمام الشافعي وجهوده في حفظها، إبراهيم أحمد الكرد/ محمد زياد السحار، قسم الحديث وعلومه بكلية أصول الدين الجامعة الإسلامية-غزة، ص: 421.

[4] الأم، الإمام محمد بن إدريس الشافعي، دار الفكر، الطبعة الثانية 1403هـ/1983م، 7/246.                       

[5] اختلاف الحديث، محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق أ.محمد أحمد عبد العزيز، دار الكتب العلمية  بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 1406هـ/1986م، ص: 148-149.                                                                        

[6] الشافعي حياته وعصره-آراؤه وفقهه، محمد أبو زهرة، ص:190.                       

[7] المصدر نفسه، ص: 190.                                                                                         

[8] المستصفى، أبو حامد الغزالي، تحقيق عبد الله محمود عمر، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1435هـ/2014م، ص:169-170.                                                                  

[9] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، دار الفكر، الطبعة: 1309هـ.، ص:88.        

[10] سبك المقالة في شرح الرسالة، محمد المبارك، 1437هـ.، ص:96.                                    

[11] الشافعي حياته وعصره- آراؤه وفقهه، أبو زهرة، ص: 221، بتصرف.                                      

[12] البقرة:129.                                                                                                            

[13] النساء: 133.                                                                             

[14] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 76-77.                                                            

[15] سبك المقالة في شرح الرسالة، محمد المبارك، ص: 99.                                                         

[16] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 78.                                                         

[17] المصدر نفسه، ص:73.                                                                                            

[18] المصدر نفسه، ص: 146.                                                                                             

[19] اختلاف الحديث، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 33.                                                

 [20] المصدر نفسه، ص:14.                                                     

[21] مناهج التشريع الإسلامي، محمد بلتاجي، دار السلام، الطبعة الثانية 1428هـ/2007م، ص:496.                 

[22] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، ص:460-461.                                                                 

[23] البرهان في أصول الفقه، الجويني، تحقيق د.عبد العظيم الديب، الطبعة الأولى 1399هـ،  2/743.                                                                        

[24] الأم، محمد بن إدريس الشافعي، 7/270.                                                                     

[25] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 599/600.                                                          

[26] القياس عند الشافعي(دراسة تأصيلية تطبيقية على كتاب الأم)، فهد بن سعد الزايدي الجهني، ص: 136، بتصرف.                                  

[27] المستصفى، أبو حامد الغزالي، ص: 436.                                                   

[28] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي الشافعي، ص: 1051.                                       

[29] القياس عند الشافعي(دراسة تأصيلية تطبيقية على كتاب الأم)، فهد بن سعد الزايدي الجهني، ص:304-305، بتصرف.                                                     

[30] الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، علق عليه الشيخ عبد الرزاق عفيفي، دار الصميعي، الطبعة الأولى 1424هـ/2003م، 2/140.                                                                      

[31] المصدر نفسه، 2/141.                                                                         

[32] المصدر نفسه، 2/143.                                                                      

[33] القياس عند الشافعي(دراسة تأصيلية تطبيقية على كتاب الأم)، فهد بن سعد الزايدي الجهني، ص:293.              

[34] المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين الرازي تحقيق د.طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة للنشر، 4/431-432.                                                        

[35] القياس عند الشافعي (دراسة تأصيلية تطبيقية على كتاب الأم)، فهد بن سعد الزايدي الجهني، ص: 292.                                                                    

[36] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 219.                                                                  

[37] اختلاف الحديث، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 201.                                                           

[38] نيل الأوطار، الشوكاني، تحقيق محمد صبحي بن حسن الحلاق، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1427هـ، 5/242.                                                                                    

[39] اختلاف الحديث، محمد بن إدريس الشافعي، ص:200.                                                              

[40] القياس عند الشافعي (دراسة تأصيلية تطبيقية على كتاب الأم)، فهد بن سعد الزايدي الجهني، ص: 315.                                                                    

[41] اختلاف الحديث، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 202-203.                                                     

[42] القياس عند الشافعي (دراسة تأصيلية تطبيقية على كتاب الأم)، فهد بن سعد الزايدي الجهني، ص: 316.                                                                    

[43] اختلاف الحديث، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 201.                                                             

[44] القياس عند الشافعي (دراسة تأصيلية تطبيقية على كتاب الأم)، فهد بن سعد الزايدي الجهني، ص: 317.                                                                          

[45] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 599.                                                                        

[46] سبك المقالة في شرح الرسالة، محمد بن عبد العزيز المبارك، ص: 566.                           

[47] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 599.                                                                       

[48] آداب الشافعي ومناقبه، أبو حاتم الرازي، دراسة وتحقيق أبي همام محمد بن علي الصومعي البيضاني، سلسلة قرة عيون المحدثين4، ص: 276.                                                             

[49] المحصول، فخر الدين الرازي، 4/212.                                                                           

[50] سبك المقالة في شرح الرسالة، محمد بن عبد العزيز المبارك، ص: 569.                                                 

[51] المصدر نفسه، ص: 252، بتصرف.                                                             

[52] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 341-342.                                                                                    

[53] قواعد دفع التعارض عند الشافعي، فهد الجهني، ص: 13.                                                        

[54] تدريب الراوي في شرح تقريب النووي، جلال الدين السيوطي، 2/196.                                                    

[55] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 216.                                                                    

[56] اختلاف الحديث، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 39/40.                                                     [57] قواعد دفع التعارض عند الشافعي، فهد الجهني، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، جزء 17، عدد 32، ذو الحجة 1425ه، ص: 17 وما بعدها، بتصرف.                               

[58] الأم، محمد بن إدريس الشافعي، 7/201.                                                                             

[59] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 216.                                                                        

[60] الشافعي حياته وعصره-آراءه وفقهه، أبو زهرة، ص: 236 وما بعدها، بتصرف.          

[61] الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، 216.                                                                             

[62] تدريب الراوي، جلال الدين السيوطي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الكتب الحديثية، الطبعة الثانية 1285هـ/1966م، 2/197/198.

[63] علوم الحديث، ابن الصلاح، صححه الشيخ محمود الحلبي، مطبعة السعادة- مصر، الطبعة الأولى 1326هـ، ص: 116-117.                                                                     

[64] اختلاف الحديث، محمد بن إدريس الشافعي، ص: 128.                                                          

[65] المصدر نفسه، ص: 41-42.                                                                                       

[66] المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين الرازي، 5/414.                                                         

[67] السنة النبوية وصلتها بالمذاهب الفقهية، ناجي لمين، مسار للطباعة والنشر-دبي، الطبعة الثانية 2018م، ص: 179.                                                                 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -