الدين والعلمانية أية علاقة؟

بسم الله الرحمن الرحيم



الدين والعلمانية أية علاقة؟ 

إشكالية الموضوع:

    إن من أكبر الإشكالات التي يواجهها الفكر العربي الحديث والمعاصر جدلية الدين والعلمانية، حيث أن لهذه الثنائية حساسيتها في السياق العربي المعاصر.

    إضافة إلى أن هذه المرحلة تشهد المدّ الأصولي الديني في مواجهة العلمانية، كما تعرف تسابقا بين من يحاولون إيجاد التوافق أو التناقض بين هذه الثنائية، الأمر الذي دفع إلى افتراض الإشكال المحوري لهذا الموضوع وهو:

هل بين الدين والعلمانية اتفاق أم تناقض وتضاد؟

    الإجابة عن الإشكال:

    إن أقوى وأهم عنصر بقي من العالم القديم هو الدين الذي يمثل أفضل تجليات الماضي، ومازال حاضرا بقوة في العالم الجديد، ويستقطب عقول الكثير من الناس وقلوبهم، وعلى صعيد آخر فإن العالم الجديد يملك عناصر قد لا تنسجم مع العالم القديم والتراث الديني،[1] هذه العناصر هي ما يسمى بالعلمانية.

فماذا نعني بالدين؟ وماذا يعني مصطلح العلمانية؟

    كلمة "الدين" تؤخذ تارة من فعل متعد بنفسه: (دان يدينه)، وتارة من فعل متعد باللام: (دان له)، وتارة من فعل متعد بالباء: (دان به)، وباختلاف الاشتقاق تختلف الصورة المعنوية التي تعطيها الصيغة.

1.   فإذا قلنا: (دان دينا) عنينا بذلك أنه ملكه، وحكمه، وساسه، ودبره، وقهره، وحاسبه، وقضى

في شأنه، وجازاه، وكافأه، فالدين في هذا الاستعمال يدور على معنى الملك والتصرف بما هو من شأن الملوك من السياسة والتدبير، والحكم والقهر، والمحاسبة والمجازاة. ومن ذلك ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾، أي يوم المحاسبة والجزاء، وفي الحديث: [الكيس من دان نفسه]، أي حكمها وضبطها، و"الديان" الحكم القاضي.

2.   وإذا قلنا: (دان له) أردنا أنه أطاعه وخضع له، فالدين هنا هو الخضوع والطاعة، والعبادة

 والورع، وكلمة "الدين لله" يصح منها كلا المعنيين: الحكم لله، أو الخضوع لله.

    وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول ومطاوع له، (دانه فدان له) أي قهره على الطاعة فخضع وأطاع.

3.   وإذا قلنا (دان بالشيء) كان معناه أنه اتخذه دينا ومذهبا، أي اعتقده أو اعتاده أو تخلّق به،

فالدين على هذا هو المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء نظريا أو عمليا.

    والمذهب العملي لكل امرئ هو عادته وسيرته، كما يقال: (هذا ديني)، والمذهب النظري عنده هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه، ومن ذلك قولهم: (دينت الرجل) أي وكلته إلى دينه ولم أعترض عليه فيما يراه سائغا في اعتقاده.

    ولا يخفى أن هذا الاستعمال الثالث تابع أيضا للاستعمالين قبله، لأن العادة أو العقيدة التي يدان بها لها من السلطان على صاحبها ما يجعله ينقاد لها، ويلتزم اتباعها.[2]

    هذا من حيث الاستعمال اللغوي، أما في الاصطلاح فقد عرفه الدكتور عبد الله دراز بقوله: "الدين هو الاعتقاد بوجود ذات أو ذوات غيبية علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشؤون التي تعني الإنسان، اعتقاد من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد".[3]

    أما كلمة "العلمانية" فقد عرفها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بقوله: "أصل هذه الكلمة نسبة على غير بابها إلى العلم، فهي يمكن أن تكون في أصلها الأول وصفا لأي فكرة أو اتجاه أو بحث لا يقوم إلا على السند والمنهج العلمي. والكلمة في ذاتها ترجمة غير دقيقة لعبارة: SECULARISM، إذ هي تعني في مدلولها الحرفي النزوع إلى الدنيا دون غيرها، ويصبح معناها من حيث اللزوم: اللادينية، والفعل منه: SECULARIZE، أي ينزع عن الشيء صفته الدينية أو السيطرة الإكليركية. ثم إن البديل عن الخضوع للصفة الدينية تمحور مع الزمن متمثلا في الخضوع للعلم الذي غدا السبيل الذي لا بديل عنه في الغرب إلى تطوير المتع الدنيوية، SECULARISM، والنتيجة هي الاحتكام إلى العلم بدلا عن الدين".[4]

  ثم إن مفهوم العلمانية استخدم تاريخيا بأربع صور وهي:

1.   ترك المناصب الكنيسية.

2.   جعل أملاك الكنيسة دنيوية.

3.   تحرير الإنسان من الدين.

4.   إعادة التفكير في أسس اللاهوت المسيحي.[5]

في ضوء هذا يطرح السؤال الآتي:

ما مرجعية كلا من الدين والعلمانية؟

    الدين وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعاملات،[6] فمرجعيته إلهية ويستند إلى الكتب السماوية المنزلة من رب الناس، والتي بلّغها الأنبياء وبيّنوها للخلق، والتي هدفها إرشاد الناس لما فيه صلاحهم في العالم الدنيوي والأخروي، وفيها ما ينظم حياتهم في جميع مجالاتها.

    أما العلمانية فتعتمد على العقلانية، إذ العنصر المكوّن للمجتمع العلماني هو إقصاء الدين عن مركز الحياة الاجتماعية للبشر، يقول الدكتور عيد الدويهيس: "أحد أبواب الجهل العلماني أنه ليست هناك مرجعية ككتب أو علماء تحسم الاختلافات أو تبدي النظر بها، وليس هناك حتى قبول بأي مرجعية فمن يحدد الحقائق الفكرية هل هو فريق أمريكي أو ألماني أو صيني أو...؟ ولماذا علينا أن نطيعه؟ ومن يضمن صدقه ووعيه وذكائه؟"[7]

    هذا ما جعل العلمانيين والمجتمع العلماني في تناقض وجهل وحيرة، حيث تناقض العلمانيون في كل أفكارهم وعقائدهم، ولم يتفقوا حتى على حقيقة فكرية واحدة سواء كانت عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وهذا ينطبق على القضايا الكبرى كوجود الله سبحانه وتعالى، فبعضهم يؤمن بوجوده وبعضهم ينفيه، وبعضهم يقول لا أدري، وهم أيضا يختلفون حول الأصول والفرعيات الاجتماعية والسياسية.[8] وهذا كله سببه انعدام المرجعية الثابتة للتيار العلماني واعتمادهم الكلي على العقل.

    من هنا ننتقل إلى طرح إشكال آخر وهو:

بما أن الدين يُعتبر مقوما حياتيا، فهل العلمانية قادرة على إلغاءه واحتلال مكانته؟

    إن المجتمع من أهم الميادين والأرضيات التي سعت العلمانية منذ بواكير ظهورها حتى الآن لامتلاكها والسيطرة عليها، ومن هنا كانت العلمانية في صراع دائم مع الأديان وخاصة الإسلام الذي يعتبر تنظيم الحياة الاجتماعية من أهم رسالته، فأصبح الدين منافسا للعلمانية تحاول إقصاءه والعمل على تنظيم الحياة وإدارتها بمفردها، من هنا يتبين أن العلمانية امتدت إلى جميع أبعاد وشؤون الحياة البشرية ومنها الحياة السياسية، ومع هذا الحال فإن البشرية فقدت أمرا مهمّا عندما فقدت الدّوافع الدينية والأفكار الدينية، والعلمانية وإن كانت بحسب الظاهر حلّت محل الدين ومنحت الناس الدوافع والأفكار، ولكنها لم تتمكن من جبران ذلك الشيء وتعويضه، ولهذا السبب تشاهدون دوما أن المجتمعات غير الدينية تعيش التحسر على التدين والإيمان حتى في صفوف غير المتدينين، وكأنهم قد فقدوا شيئا غامضا ومهمّا وليس باستطاعتهم استعادته، فهناك أشكال الخلل والقصور في قلب العقلانية والعلمانية لا يمكن حلّها.[9]

    ويرى (سيدمان) أن الكثير من المدافعين عن العلمانية ونُقادها متفقون على شيء واحد وهو أن الإيديولوجيات أو الأطروحات الثقافية للعلمانية ليس بوسعها عرض الأطر اللازمة لإدارة وتنظيم الشؤون الشخصية والأخلاقية والاجتماعية، ومن هنا تتجلى ضرورة العودة إلى الدين، كما يرى (دون كيوبيت) أن العقلانية الدنيوية والعلم الحديث والثقافة العلمانية مع أنها استطاعت في فترات معينة فتح أجزاء واسعة من الثقافة الجديدة وتهميش الدين وإقصاءه وفرض نفسها كدين على الناس، ولكن سرعان ما تبيّن عدم كفاءتها ولم تستطع كما ادعت الحلول محل الأديان التقليدية.[10]

  من هنا نطرح إشكالا آخرا:

بماذا يتجاوز الدين العلمانية؟ أو بمعنى آخر ما هي الأمور التي يقدمها الدين ولا تستطيع العلمانية تقديمها للبشرية؟

    يذهب الفيلسوف الكندي المعروف "تشارلس تيلر" إلى ضرورة إعادة الدين إلى المجال العام مع كامل الاحترام لخصوصياته، وذلك لأن الحاجة إليه تكمن فيما له من خصوصية تميزه عن غيره من المواقع الفكرية والإيديولوجية.[11]

    فالدين له خصوصية جوهرية تميزه عن غيره من الأنظمة الوضعية كيفما كانت، وأول ما يتجاوز به الدين العلمانية هو أنه نزعة إنسانية لها أصالتها في الفطرة البشرية، وهذا ما يجعل النفس تخضع له وتقبله، يقول معجم (لاروس) للقرن العشرين: "إن الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية، حتى أشدها همجية، وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية"[12]، ولهذا نرى الفكرة الدينية تعبر عن حاجات النفس الإنسانية في مختلف ملكاتها ومظاهرها، حتى إنه كما صح أن يعرف الإنسان بأنه (حيوان مفكر) أو بأنه (حيوان مدني بطبعه) يسوغ لنا كذلك أن نعرفه بأنه (حيوان متدين بفطرته).[13]

    إذن فإقصاء عنصر الدين عن حياة الإنسان تردّه إلى مستوى الحيوان الأعجم، وبهذا يكون الدين قد ضمن للبشرية إنسانيتها، وهذا ما لا تستطيع العلمانية تقديمه.

    ثم إن الدين يتجاوز العلمانية من ناحية القيم الإنسانية، فالعلمانية باعتبارها قائمة على العقلانية المحضة فإن هذه الأخيرة عندما تهيمن على حياة البشر فإن هذه الحياة ستخضع للمحاسبة المادية وستكون الأخلاق مصلحية، والأفكار علمية، والوسائل مادية وتكنولوجية، كل هذه الأمور ربما تكون طبيعية ومقبولة، ولكن هناك شيء يفتقده الإنسان في هذه الأجواء، وهو عنصر الإيثار والجود والكرم والتضحية، والمعيار للمحاسبات العقلية هو الربح والمصلحة، وعندما تتقابل مصالح البشر ينشأ النزاع والقتال، ولا يوجد في العقلانية عنصر الإيثار، هذا هو الشيء الذي تفقده البشرية المعاصرة، فإذا كانت هناك دوافع للقيم فإنها تنطلق من دوافع دينية.[14]

    يقول د.عبد الله دراز بهذا الصدد: "ومن الخطأ البيّن أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانا للسلام والرخاء، وعوضا عن التربية والتهذيب الديني والخلقي؛ ذلك أن العلم سلاح ذو حدين يصلح للهدم والتدمير، كما يصلح للبناء والتعمير، ولابد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي يوجهه لخير الإنسانية وعمارة الأرض، لا إلى نشر الشر والفساد، ذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان".[15]

    ثم إن الدين يتجاوز العلمانية بكونه يشتمل على حقائق فكرية ثابتة منسجمة، عكس العلمانية التي تتسم بالتناقض وانعدام الحقائق الفكرية، "فهي لم تستند أبدا إلى حقائق فكرية على مختلف مدارسها الرأسمالية والشيوعية والنازية وغيرها، وإنها استنادها هو فقط للظن والتخمين والرأي والاحتمال والحل الوسط والتصويت ولا أدري".[16] وهذا أدى بالعلمانيين إلى التناقض في حين نجد أن العلم والحقائق الفكرية في الدين وأخص الإسلام لكونه الدين الخاتم والخالد، هذا العلم نجده في القرآن والسنة وهي حقائق معروفة للناس ولا توجد صعوبة في فهم الإسلام.

    هذه التجاوزات وغيرها كثير ناتجة عن مستند هذه الثنائية –الدين والعلمانية-، حيث إن مستند كل منهما هو أصل اختلافهما وتناقضهما، إذ العلمانية تقول إن العقل لوحده قادر على الوصول إلى الحقائق الفكرية، في حين أن الدين يقول إن العقل سيوصلنا للحقائق الفكرية أي وجود الله وصدق الأنبياء، ثم بعد ذلك نعتمد في معرفة الحقائق الفكرية على الكتب السماوية أي هي منبع العلم الفكري.[17]

    من هنا تكون العلمانية ضد الإسلام، لأن الإسلام نظام عقائدي وسياسي واجتماعي واقتصادي، وهو دين ودولة، وبالتالي ففصله عن الدولة هو رفض له، والشعار العلماني: "الدين لله والوطن للجميع"، معناه ابعدوا الإسلام عن التأثير في البشر والدول.[18]

    وبهذا تكون العلمانية ضد الدين، وتسعى لإزالته عن الحياة الاجتماعية، لكن هذا العنصر المقدس سيبقى مهيمنا لكونه فطرة في البشرية أوّلا، ومقوما حياتيا أساسيا ثانيا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] التراث والعلمانية البنى والمرتكزات الخلفيات والمعطيات، عبد الكريم سروش، ترجمة أحمد القبانجي، مكتبة الفكر الجديد، الطبعة الأولى 2009م، بيروت-لبنان، ص: 7.

[2] الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، محمد عبد الله دراز، دار ابن الجوزي-القاهرة-، الطبعة الأولى 2013م، ص: 25-26.

[3] المصدر نفسه، ص: 49

[4] المذاهب التوحيدية والفلسفات المعاصرة، محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، الطبعة الخامسة 1437ه/2015م، ص: 319.

[5] التراث والعلمانية البنى والمرتكزات الخلفيات والمعطيات، ص: 24-25.

[6] الدين، ص: 28

[7] عجز العقل العلماني، عيد الدويهيس، الطبعة الأولى 1420ه/2000م، ص:65.

[8] المصدر نفسه، ص: 32-33.

[9] التراث والعلمانية البنى والمرتكزات الخلفيات والمعطيات، ص: 82

[10] العلمانية مذهبا دراسات نقدية في الأسس والمرتكزات، الإشراف العلمي: محمد تقي سبحاني، إعداد: مهدي أميدي، ترجمة: جيدر نجف، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي –بيروت-، الطبعة الأولى 2014م، ص: 22.

[11] قوة الدين في المجال العام، يورغن هابرماس/ جوديث بتلر/ كورنيل ويست/ تشارلس تيلر، ترجمة: فلاح رحيم، دار التنوير للنشر، الطبعة الأولى 2013م، ص: 15.

[12] الدين، ص: 80.

[13] المصدر السابق، ص: 96.

[14] التراث والعلمانية البنى والمرتكزات الخلفيات والمعطيات، ص: 82-83.

[15] الدين، ص: 98.

[16] عجز العقل العلماني، ص: 49.

[17] المصدر نفسه، ص: 129، بتصرف.

[18] عجز العقل العلماني، ص: 142.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -